هذا المقال من كتاب « أناشيد الإثم والبراءة» للدكتور مصطفى محمود .. رحمه الله
تأملوا كلماته ومعانيها وفلسفته العبقرية فى تفسير الحب والموت والأحاسيس والمشاعر التى تنتابنا ... المقال تحفة وإثراء للروح والعقل
لا يوجد وهم يبدو كأنه حقيقة مثل الحب..
و لا حقيقة نتعامل معها و كأنها الوهم مثل الموت!! فليس هناك أمر مؤكد أكثر من الموت، و مع ذلك لا نفكر أبدا بأننا سنموت، و اذا حدث و فكرنا لا يتجاوز تفكيرنا وهما عابرا عبور النسيم، والعكس في حالة الحب، فبرغم أن الحب دائما أمر يزينه الخيال و يضخمه الوهم و يجسمه التصور و تنفخ فيه الشهوات، و برغم أن الحب يشتعل و ينطفئ و يسخن و يبرد و برغم أن أحواله و تقلباته تشهد بأنه وهم كبير، إلا أننا نتعامل معه بالرهبة والتقديس والاحترام والخضوع.. و نظل على هذا الخلط والاختلاط حتى نفيق على الصدمة، فنصحو ونستعيد رشدنا لأيام أو شهور أو سنوات، ولكن لا نلبث أن نستسلم إلى إغماء جديد.
وسبب الخلط والاختلاط هو دائما خطأ في النسبة.. فنحن دائما ننسب الجمال الذي شاهدناه والحنان الذي تذوقناه إلى صاحبته، مع أنها ليست صاحبته ولا مالكته.. ولو امتلكت امرأة جمالها لدام لها.. ولكن الجمال لم يدم لأحد، لأنه منحة وإعارة من الله بأجل وميقات وهو قرض يسترده في حينه.. فصاحبه ومالكه هو الله وليس أي امرأة.
وكذلك كل ما نعشق من حنان ومودة ورأفة وحلم وكرم كلها خلع ومنح وأوصاف مستعارة من الودود الرءوف الحليم الكريم.. وهو مالكها بالأصالة.. ونحن نملكها عنه بالقرض والإعارة.
ولكن العين التي تعشق الجمال تخطئ نسبته وملكيته فتظنه لصاحبته فتعشق صاحبته وتعبد صاحبته.
وهي تظل في هذا الوهم حتى تفيق على القبح يطل من تحت المساحيق والقسوة تظهر من وراء الأهداب، فتصحو على الصدمة وتعاني وتتعذب وتندم وتعتبر وتتوب ثم تعود فتنسى وتنزلق إلى وهم جديد..
وتلك هي الغفلة المستمرة التي نعيش فيها جميعا.. نفيق منها لحظات لنعود فنغرق في سباتها من جديد، ولا يسلم من هذا البلاء إلا نبي معصوم أو ولي عارف يحفظه ربه ويسدل عليه كنفه.. فلا يرى حيثما تولى إلا وجه الله.
(فأينما تولوا فثم وجه الله)
فهو الجمال في كل جميل وهو الرأفة والحنان والكرم والحلم والمودة.. فتلك أسماؤه تتجلى في أواني الطين والخزف الشفافة التي شفها الإحساس حتى أصبحت مثل الكريستال المضيء، تماما كما يرى الفلكي نور القمر فيعرف أنه ليس نوره بل نور الشمس تجلى عن وجهه.
وهكذا لا يرى هذا العارف أينما تولى إلا وجه الله.. وهو دائم الهمس الله.. الله.. الله.. الله.. الله.. وهو ناظر دائما إلى الظاهر وليس إلى المظاهر.. ناظر إلى الله الظاهر دائما في كل شيء.. لا يطرف.. متعلق بالمعاني وليس بالأواني.
وهو لهذا لا ينقسم ولا يتشتت ولا يضيع في التلفت، وإنما هو مجذوب الفؤاد إلى الله على الدوام.
ولكن أمثال هذا الرجل قليل نادر مثل الألماس واليورانيوم، وأمثاله لا يتجاوزون
أفرادا وآحادا بين ألوف الملايين من الحشد المغمى عليه، وهي غفلة عامة غالبة لا ينجي فيها علم ولا ثقافة ولا دكتوراه ولا ماجستير، فتلك أبواب غرور تزيد من الغفلة.. فنرى العالم يضع علمه في خدمة هواه، وعقله في خدمة عاطفته، ومواهبه في خدمة شهواته، فتصبح بلواه مضاعفة وصدمته قاصمة للظهر.
ويمضي العمر في سلسلة من الغفلات والإغماءات مجموعها في الختام صفر، أو هي في الحقيقة حاصل طرح وليست حاصل جمع، فمجموعها في النهاية بالسالب وليس بالموجب، فحياة صاحبها إلى نقصان يوما بعد يوم و سنة بعد سنة.. يخرج من وهم إلى وهم، ومن خدعة إلى خدعة.. حاله مثل حال الشارب من ماء مالح، كلما ازداد شربا ازداد عطشا.. لا يحصل على سكينة ولا يبلغ اطمئنانا، وإنما هو هابط دوما من قلق إلى قلق، ومن تمزق إلى تمزق، ومن تشتت إلى تشتت، حتى تنتهي حياته بلا ثمرة، وينتهي تحصيله بلا جدوى.
وتلك هي العقلية الاستمتاعية السائدة اليوم في عالم وثني، أصنامه اللذة والغلبة والهوى.. معبود كل واحد نفسه، وكتابه رأيه، ودستوره مصلحته.
والحال في الأمم المتخلفة والنامية أسوأ مما هو في الأمم المتقدمة.. وهي أمم مجموعها أحيانا (حاصل طرح أفرادها)، وليس حاصل جمعهم، لأنهم منفرطون منقسمون متباعدون كالجزر التائهة في البحر.. يضرب بعضهم بعضا.. وعزمهم مستهلك.. وقوتهم لا شيء..
يتحدثون عن الوحدة.
ولا وحدة إلا بالواحد.
هو وحده الواحد لا إله إلا هو، الذي يخرج به كل واحد من شتات نفسه وتخرج به الأمم من تفرقها ويخرج به العالم من انقسامه.
والقضية بالدرجة الأولى قضية إيمان.
هي قضية رؤية..
كيف نرى العالم..؟
وكيف ننظر فيما حولنا..؟
وكيف نحب..؟
هل نستطيع أن نكون ذلك العارف الذي لا يرى في كل شيء إلا الواحد.. و لا يبصر إلا وجه ربه في كل محبوب.
هل يمكن أن نكون مصداق الآية:
(أينما تولوا فثم وجه الله)
وفي هذا الإطار نحب وفي هذا الإطار نكره.. فنبذل المروءة والمعروف والمودة للجميع ولا يكون لنا تعلق ولا يكون لنا حب إلا الله وبالله وفي الله.
ذلك هو الجهاد الصعب.
ولا اختيار..
ولا طريق آخر.
وكل واحد وعزمه.
وكل واحد وهمته..
وعبرة كل حياة بختامها.. فلنسارع إلى المجاهدة ولنشمر السواعد حتى لا يكون محصول حياتنا صفرا، وحتى لا يمضي بنا كل يوم إلى نقصان، وحتى لا يصبح كل يوم من أيامنا مطروحا من الذي قبله.
إنما خلق الله الغواية لامتحان القلوب و ليعرف الكبار أنفسهم وليعرف الصغار أنفسهم من البداية..
منقول من كتاب «أناشيد الإثم والبراءة» لاستأذنا الفاضل العالم المفكر الدكتور مصطفي محمود .. رحمه الله وجعل الجنة مأواه وجزاه عن علمه خير الجزاء
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ردحذفاحيك على النقل المميز
ربنا يكرمك خير يارب
ورحم الله استاذنا الفاضل مصطفى محمود
وانا لله وانا الية راجعون
تقبل مرورى
ايناس
مرحبا إيناس ..
ردحذفالدكتور مصطفى كان علامة فى تاريخ مصر المعاصر .. فلم يكن عالما فقط بل كان سياسيا أيضا وحارب بقلمه وفكره مخطط الصهيونية وفضح ألعيبهم فى كتابه " المؤامرة الكبرى " وغيرها من المؤلفات والمقالات .. رحمة الله عليه
الله يرحمة ويرحم جميع المسلمين ... امين يارب العالمين
ردحذف