« إوعاك تفتكر إن الناس في مصر ها يقابلوك بالورد، وهتلاقى كرسي ومكتب، ويقولولك اتفضل ياباشا، يا بني البلد مليانة شهادات وماهياش ناقصة، اقعد ربنا يهديك، بلاش وجع قلب ».
مادمت أسعى وأسير فى الأرض، فأنا فى طريقي إلى المستقبل، فالأشياء المستحيلة تظل مستحيلة إذا لم نخضها ونحاول معرفتها..
ـ « هادعيلك فى كل صلاة، وهاطلب من الله يرزقك ويرعاك، ويحبب فيك خلقه منين ما تروح، ويوقفلك ولاد الحلال، بس إياك تنسى أمك وتاخدك الغربة ».
كلمات يرددها صدى الماضي ورجع السنين كلما ألمت به ضائقة، يتذكر دعاء أمه، ولوم صديقه .. الحياة صعبة بل مستحيلة وسط بشر مثل الآلات، نزعت من صدورهم القلوب وحَلَّ مكانها الصخر والحنضل .. بشر لا يعرفون الرحمة..
«آه يا أمى..!! شفت كتير والعمر بيجرى ولا فايدة..»
ـ الحياة فرص فإذا أتتك الفرصة فتشبث بها ولا تدعها تضيع منك فتندم العمر كله، كُنْ صبورا ولا تستعجل الأقدار؛ فكل شيء على وجه البسيطة بمقدار، واعلم أن حيلة من لا حيلة له.. الصبر.
ـ خمس سنين بتجرى فى بلاد الناس وما عملتش حاجة، نفسي أفرح بيك قبل ما أموت، نفسى أشوف عيالك وأشوفك سعيد، عمرى ما خفت على حد من عيالى زى ما خفت عليك، فوت مصر وتعالى بقى يا ابنى، كفياك بهدلة ومرمطة.. أنا عارفاك دماغك ناشفة وما هاترجعش عن اللي فى دماغك.. أقولك إيه؟! ربنا يدينى عمر وصحة وأشوفك وصلت للى أنت عايزه وعايش سعيد.
الذكرى الجميلة تقتحم حاضره التعيس، وجه أمه المحاط بالطرحة البيضاء وهى تتمتم بالدعاء والتسابيح عقب كل صلاة، وصوت والده الحنون وهو ينصحه ويحذره من الدنيا والناس،وجلسة العصارى مع أصحابه على شط الترعة وهم يروون الحكايات ويأكلون الفول الأخضر والطماطم من أرض الحاج عبده، إحساس مؤلم ينتابه، وذنب كبير يتمثل فى تركه لأهله وبلدته وجيرانه وأصحابه، يدفع ثمنه الآن من عمره ووحدته وعيشته بين الأغراب وتجاهل الناس له وظلمهم، لازم تدفع عمرك ودم قلبك لتحصل على عمل، لازم تتعلم الكذب والنفاق، لازم تكون بمائة وجه لكي تستطيع العيش، وفوق هذا كله لابد من الواسطة «والضهر»، وبما إنك لا تملك شيئا من هذا، فلا يمكنك أن تعترض أو تدفع عنك ظلما، وما عليك إلا أن ترضى بالواقع وإلا....!!
ما الفرق بيني وبين الغرقى على شواطئ أوروبا؟!
كلانا يبحث عن نفسه ..عن آدميته، عن كينونته المفقودة بين طواحين الفساد ورءوس الأموال والنفوذ الطاغي، كلانا يلاطم الأمواج، لا فرق بين أمواج البحر القاتلة وأمواج الظلم المستشري .. المحصلة واحدة..!
كلانا هرب من الفقر .. بحثا عن أمل متراقص فى مخيلة متفائلة بأن « الدنيا حلوة » وستضحك لنا الأيام..!!
كلانا ترك الأهل والخلان والناس الطيبين، ليلقى بنفسه بين بشر فاقد للضمير .. للوعي .. للإحساس، فاقد لكل معنى جميل فى الحياة .. كلانا مات بطريقته التي سعى إليها .. غرقا كان أو ذلا وهوانا، لم يعد الحلم الجميل الذي راودك فى الصغر يأتيك، لم يعد الأمل المرسوم فوق جبينك يرتسم، لم يعد يؤرقك المستقبل ..!!
خمد كل شيء، إما فى بحر مظلم أو وسط بشر يسرقون حقك ويرقصون فوق أشلاء الحلم المتحطم .. لتعيش حياة ليس فيها حياة، غريق فى البحر وغريق فى العاصمة، وما بين الاثنين تقف نداهة تتشح السواد، تصرخ أحيانا وتندب أحيانا..!!
نشرت بجريدة الأهرام الطبعة العربية
الأربعاء 12 ديسمبر 2007