الأربعاء، 14 يناير 2009

غريق في العاصمة

قصة قصيرة



« إوعاك تفتكر إن الناس في مصر ها يقابلوك بالورد، وهتلاقى كرسي ومكتب، ويقولولك اتفضل ياباشا، يا بني البلد مليانة شهادات وماهياش ناقصة، اقعد ربنا يهديك، بلاش وجع قلب ».

مادمت أسعى وأسير فى الأرض، فأنا فى طريقي إلى المستقبل، فالأشياء المستحيلة تظل مستحيلة إذا لم نخضها ونحاول معرفتها..
ـ « هادعيلك فى كل صلاة، وهاطلب من الله يرزقك ويرعاك، ويحبب فيك خلقه منين ما تروح، ويوقفلك ولاد الحلال، بس إياك تنسى أمك وتاخدك الغربة ».
كلمات يرددها صدى الماضي ورجع السنين كلما ألمت به ضائقة، يتذكر دعاء أمه، ولوم صديقه .. الحياة صعبة بل مستحيلة وسط بشر مثل الآلات، نزعت من صدورهم القلوب وحَلَّ مكانها الصخر والحنضل .. بشر لا يعرفون الرحمة..
«آه يا أمى..!! شفت كتير والعمر بيجرى ولا فايدة..»

ـ الحياة فرص فإذا أتتك الفرصة فتشبث بها ولا تدعها تضيع منك فتندم العمر كله، كُنْ صبورا ولا تستعجل الأقدار؛ فكل شيء على وجه البسيطة بمقدار، واعلم أن حيلة من لا حيلة له.. الصبر.
ـ خمس سنين بتجرى فى بلاد الناس وما عملتش حاجة، نفسي أفرح بيك قبل ما أموت، نفسى أشوف عيالك وأشوفك سعيد، عمرى ما خفت على حد من عيالى زى ما خفت عليك، فوت مصر وتعالى بقى يا ابنى، كفياك بهدلة ومرمطة.. أنا عارفاك دماغك ناشفة وما هاترجعش عن اللي فى دماغك.. أقولك إيه؟! ربنا يدينى عمر وصحة وأشوفك وصلت للى أنت عايزه وعايش سعيد.

الذكرى الجميلة تقتحم حاضره التعيس، وجه أمه المحاط بالطرحة البيضاء وهى تتمتم بالدعاء والتسابيح عقب كل صلاة، وصوت والده الحنون وهو ينصحه ويحذره من الدنيا والناس،وجلسة العصارى مع أصحابه على شط الترعة وهم يروون الحكايات ويأكلون الفول الأخضر والطماطم من أرض الحاج عبده، إحساس مؤلم ينتابه، وذنب كبير يتمثل فى تركه لأهله وبلدته وجيرانه وأصحابه، يدفع ثمنه الآن من عمره ووحدته وعيشته بين الأغراب وتجاهل الناس له وظلمهم، لازم تدفع عمرك ودم قلبك لتحصل على عمل، لازم تتعلم الكذب والنفاق، لازم تكون بمائة وجه لكي تستطيع العيش، وفوق هذا كله لابد من الواسطة «والضهر»، وبما إنك لا تملك شيئا من هذا، فلا يمكنك أن تعترض أو تدفع عنك ظلما، وما عليك إلا أن ترضى بالواقع وإلا....!!
ما الفرق بيني وبين الغرقى على شواطئ أوروبا؟!
كلانا يبحث عن نفسه ..عن آدميته، عن كينونته المفقودة بين طواحين الفساد ورءوس الأموال والنفوذ الطاغي، كلانا يلاطم الأمواج، لا فرق بين أمواج البحر القاتلة وأمواج الظلم المستشري .. المحصلة واحدة..!
كلانا هرب من الفقر .. بحثا عن أمل متراقص فى مخيلة متفائلة بأن « الدنيا حلوة » وستضحك لنا الأيام..!!

كلانا ترك الأهل والخلان والناس الطيبين، ليلقى بنفسه بين بشر فاقد للضمير .. للوعي .. للإحساس، فاقد لكل معنى جميل فى الحياة .. كلانا مات بطريقته التي سعى إليها .. غرقا كان أو ذلا وهوانا، لم يعد الحلم الجميل الذي راودك فى الصغر يأتيك، لم يعد الأمل المرسوم فوق جبينك يرتسم، لم يعد يؤرقك المستقبل ..!!
خمد كل شيء، إما فى بحر مظلم أو وسط بشر يسرقون حقك ويرقصون فوق أشلاء الحلم المتحطم .. لتعيش حياة ليس فيها حياة، غريق فى البحر وغريق فى العاصمة، وما بين الاثنين تقف نداهة تتشح السواد، تصرخ أحيانا وتندب
أحيانا..!!



نشرت بجريدة الأهرام الطبعة العربية
الأربعاء 12 ديسمبر 2007

الحساب


تسير في نفس الطريق.. تدخل نفس المكان.. تجلس إلى نفس المنضدة.. يأتي نفس الجارسون.. يبتسم بلطف وينحني لتحيتك..

ـ تحت أمرك يا فندم

تنظر في ساعتك.. تتظاهر بأنك تنتظرها، وتطلب نفس العصير الذي تحبه هي .. تنظر إلى الكرسي المقابل لك الذي تشعر فيه لأول مرة أنه جماد.. تتجسد أمامك بوجهها الضحوك السمح، وعينيها الناعسة وفمها المرسوم وثغرها البسّام وخصلات الشعر المتدلية على جانبي الوجه وأعلى الجبهة.. ترتاح نفسك للذكرى .. تشعر بالنشوة وإحساس بالوحدة يجتاح كيانك.. يطوف بقلبك في المكان، عبيرها الزكي الرائحة يشغل الفراغ الذي بينك وبين الكرسي .. تمتد يدك بهدوء على المنضدة .. يضع الجارسون العصير فتنتبه ويتملكك الخجل .. ترتبك .. يتغير لون وجهك .. تضطرب ملامحك .. تبتسم ..

ـ شكرا
..

يبتسم الجارسون ابتسامة ذات معنى .. ويهرب طيفها من بين دوائر دوامة عقلك المزدحم بالذكريات لتجد نفسك وحيدا غريبا.. يضيق بك الفراغ الفسيح ويضيق صدرك، وتتناثر الأحزان من حولك ويقتلك الندم .. يعصف بك المكان رغم سكون الهواء .. تجدب بك الحديقة رغم كثرة الورود والأزهار .. تتلفت يمينا ويسارا.. تدور بعينيك في المكان .. تطأطئ رأسك بحسرة ..

- ما فائدة الحب ولما ذا نحب ؟!
- عندما أنتهي من دراستي سأعمل في أي شىء وأتقدم لخطبتك

- تنتهي من دراستك !! ثم تشتغل .. ثم تتقدم لخطبتي .. ثم .. ثم .. كم من العمر سيمر حتى تحقق هذا ؟! سنة.. سنتان.. ثلاث.. خمس.. عشر، نحن نعيش أحلاما وردية نرسمها بخيالنا وطموحنا ومستقبلنا المجهول، نعلق الآمال والأمنيات على مصير متأرجح في زمان تلاشت فيه كل الطموحات، وأقدار تلهو بنا كريشة في مهب الريح .. لن نكون لبعض .. انظر إلى ساعتك التي تزين بها معصمك، من الذي اشتراها؟! لقميصك المستورد وبنطالك الشيك، وهذا الحذاء الإيطالي الفخم.. من الذي دفع ثمن كل هذا؟!

يشعر بالخزي.. ينظر في الأ رض يتمنى أن تنشق وتبلعه ليهرب من الإجابة..
- والدك.. أهو الذي سيزوجك ؟! أهو الذي سيدفع إيجار الشقة .. دا إذا وجدناها من أصله ؟! أهو الذي سيعطيني مصرف البيت ؟! أهو الذي سيعالجني إذا مرضت ؟!
يصرخ في وجهها مشوحا بيده ..
- كفى .. كفى
تهدأ ثورتها .. تنظر في الأفق البعيد كطير يشتاق للطيران في الفضاء الفسيح، بعيدا عن قيود الحياة، ويسري الصمت بينهما في تسلل، ليغلف المكان بالسكون .

قامت من جلستها حتى استبان وقوفها، وأنت مازلت جالسا في ذهول لا تصدق ما يحدث .. ترفع عينيك إليها.. تتأملها .. تحجب دمعا يتموج فيهما، يترقرق في مآقيهما .. نظراتك تتوسل لها .. تترجاها ألا تتركك، أن تبقى بجانبك .. كل هذا يجول بخاطرك .. تنطقه عيناك، لكن يعجز لسانك عن النطق به، فأراحتك من هذه النظرات ..

- من لا يستطيع أن يتوج حبه بالزواج فلا يوجع قلبه بنار الفراق ..

وتركتك ممتقع اللون .. مدمع العينين .. يحاوطك الفشل .. يوجعك الفراق .. يلسعك الألم، وتدور بك الدنيا، وشرعت تهرول في مشيتها المرتبكة وأوصالها المتخبطة.. تحاول الخروج بأقصى سرعة حتى لا ينثني عزمها عما نوت .. رعشة تسري في جسدها .. خطواتها ثقيلة تجر قدميها الملتصقتين بالأرض .. بحزر شديد نظرت لتجدك منكمشا في الكرسي .. منزويا في المنضدة، تحتضن زراعيك بخوف مطأطأ رأسك عليهما ..
شيء دافئ ينساب على خديها .. ضباب يكسو الطريق أمامها وسحب من الدموع تتابع في غيمة عينيها، وضعت ثقلها على قدميها بعناد وخرجت .. يأتي الجرسون يرفع كوب العصير .. تنتبه لتصحو على ما تبقى من الحب .. الطريق .. المكان .. المنضدة .. الجارسون .. تُخرٍج حافظة نقودك التي أهدتها لك في عيد ميلادك الأخير .. تتحسسها بيديك المرتعشتين .. يئن قلبك .. يقطر دما .. تحن جوارحك، وتشعر بالراحة بوجودك في هذا المكان .. صوت يأتيك من بعيد .. تلتفت .. الجارسون يبتسم :

ـ « الحســــــــــــــاب .. » !!

دعاء


بسم الله الرحمن الرحيم

إذا ضاقت بك الدنيا فقل يا الله..

إذا ظلمك الناس وتخلى عنك الأهل والأصحاب فقل يا الله ..
إذا جاءتك الدنيا بخيرها وحلوها ومرها فقل يا الله..
إذا تاهت مِنكَّ الطرق وسِرْتَّ في الدروب بلا مقصد فقل يا الله ..
إذا ضعف البصر ووهن العزمْ وتسلل العمر منك
ووجدت الشيب دب وريح العجز والشيخوخة هَبْ فقل يا الله ..
إذا ذهب الأحباب والأصحاب، وأغلقت الوحدة عليك الباب
ووجدت نفسك وحيدا حزينا، فقل يا الله..
إذا حُرِمْتَ المال أو العيال أو الاثنين معا فقل يا الله ..
إذا أُصِبْتَ بالإعياء وحَلَّ بك الداء ولم تجد المعالج أوالدواء فقل يا الله ..
إذا ارتعشت اليد واهتَّز القَدْ وناءت بحمل جسدك الأقدام فقل يا الله ..
إذا ضاق صدرك ونهشك الملل وصرت بين الناس في حلٍ ورحال فقل يا الله..
إذا أنكر الناس معروفك وقالوا عنك ما ليس فيك وبالأكاذيب وصموك فقل يا الله..
إذا ظُلِمْتَّ وعجزت عن الصد أو الرد وقِلّة حيلتك فقل يا الله..
إذا جاءك الموت بغتة فاجعل آخر نبضة في قلبك يا الله..

... فمن بيده مقاليد الأمور وتصريف الأقدار غير الله ..
من بيده الحياة والموت غير الله ..
يا الله .. يا الله .. يا الله ...
يسر لنا الحياة في الدنيا واغفر لنا فى الآخرة ..
ولا تأخذنا بذنوبنا.. والطف بنا يا مولانا فيما جرت به المقادير ...
يا رب ... يا رب ... يا رب
آمين .. آمين
آمين


البرواز الذهبى

قصة قصيرة
نُشِرت بجريدة الأهرام المسائى
فى 27/3/2007
سوف تجلس العمر كله هكذا .. لقد أدمنت القرفصاء كالمصطلى بنهم فى ليلة برد قارس يلعب فيه السقيع دوره ليبدد دفء الأجساد إلى برد مفرط .. تضع ذقنك المدببة على رُكْبَتَيك .. تشعر بالراحة الجسدية لهذا الوضع، لكن أين راحة العقل وأنت تجلس تتألم وأنت تتأمل ذلك البرواز المعلق على الحائط المقابل لك .. لقد تعودت على هذه الأريكة المقابلة للبرواز، حتى أصبحت جزءا منك .. تتأمل الكلمات المكتوبة بداخله .. تسخر منها .. تمقتها .. كلمات رنانة ذات وقع فخم على أذن السامع لها .. تشعر صاحبها بالفخر .. الفخر فقط، لكن أين الطموح .. الابتكار .. المستقبل .. العمل .. الوظيفة !! لا شىء ، ينظر .. يرمق .. يدقق .. يغمض عينيه .. يهز رأسه بعصبية ثم ينفث زفيرا تهتز له شفتاه، ثم ينفجر فى ضجر .. يا ليتنى ما قضيت كل هذا العمر أسعى جاهدا وراء هذا البرواز.
تأتى والدته على صوته المدوى بأركان البيت المترب، فما عادت الأم العجوز تهتم بالحياة .. يسكن قلبها الحزن منذ أن تخرج ولدها الوحيد .. وهى تراه محطما مكتئبا، كل الأبواب توصد فى وجهه، ويعود يجلس جلسته المعتادة لساعات طويلة يتأمل البرواز، ترقيه .. تتألم لأجله، لكن ما باليد حيلة .. تجلس بجواره .. تطيب خاطره .. تواسيه .. تخفف عنه بالكلمة المعتادة : "الصبر يا ابنى .. " يرفع رأسه القابع بين ركبتيه، وينظر لها بألم وحسرة .. بعينين تتموج فيهما الدموع كموج بحر هائج فى يوم عاصف، وما أن تتقابل العيون حتى تنهمر الدموع بفيض ترسم على خديه مجرى لسيلها المتدفق ..
- لقد يئست يا أمى .. كرهت الدنيا .. كرهت نفسى .. كرهت ملابسى .. كرهت البرواز .. كرهت الفراغ الذى بداخلى ويحيط بى .. من أنا ؟!
أين كينونتى ؟! أين وجودى كإنسان مجتهد .. أين جهدى طيلة سنوات التعليم ؟!
كل هذا لا شىء .. لاشىء !!
أربعة أعوام من الجهد والتعب والسهر والمذاكرة والقلق والترقب والنجاح بتفوق فى كل عام .. أين كل هذا ؟! ما فائدة هذا البرواز وما فائدتى ؟!

يهدأ فى حضن أمه .. يرفع رأسه للبرواز فتقع عيناه على ما بداخله ..
" تشهد جامعة القاهرة أن الطالب صلاح محمد المنياوى قد حصل على بكالوريوس العلوم - قسم كيمياء - بتقدير امتياز .......".
يطأطئ رأسه المتخوم بالأشياء .. " ألف مبروك يا صلاح أنت المرشح الوحيد بلا منافس للتعيين معيدا بالقسم .. وما أدراك ما معيد .. يعنى مركز مرموق، وشهرة وعلم وحياة كريمة مترفة وفلوس وغيره .. ألف مبروك انت تستحق ذلك ..
يضحك صلاح .. تلمع عيناه بدموع الفرح .. ملامحه تبتسم .. وجهه مشرب بالفرحة، لقد وصلت يا صلاح إلى ما سعيت وتمنيت، لقد حققت الحلم ووضعت قدميك على أولى درجات سلم العلم والارتقاء والتقدم والاكتشاف وتحقيق الذات وإثبات أن المصرى عبقرى متميز فى كل المجالات .. الآن تسطيع أن تكون ..
يمشى فى الشارع بفرحته .. يحتضن الزحام والأشياء بعينيه المتراقصة بالفرحة .. يدخل بيته بثورة من التهليل والتحميد على فضل الله عليه .. يحتضن والدته ويدور بها فى ردهة البيت .. ابنك أصبح معيدا بالكلية يا ماما .. زغاريت تملأ البيت .. الجيران والناس يهنئون والحلوى والمرطبات توزع على كل آت وذاهب.

وسكن الليل ونامت كل العيون ولم تنم عيناك ولم يغمض لهما جفن من فرط الفرحة .. أخذت تراجع تجاربك اختراعاتك مقترحاتك مهاراتك أفكارك العبقرية ..
وبدأ الصبح ينشر نوره، وتسربلت شرفتك بضوء النهار، وفى رقة ونعومة تسللت إشاعة الشمس لحجرتك، فترى فيها إشراقة المستقبل .. تتوضأ تصلى الصبح وتتبعه بركعتى شكر لله .. ترتدى أشيك وأفضل ما لديك من ملبس .. ترتب حقيبتك الكيميائية .. تتهيأ أمام مرآتك .. تصفف شعرك .. تنظر له بزوايا عينيك من كل جانب فى المرآة .. تُقَبِلْ يدى والدتك فتدعو لك ثم ترقيك بالمعوذتين وآية الكرسى ..
ويخرج مبتهجا للكلية، يدخلها وهو يداعب كل من يقابله .. يتبادل التهانى مع زملائه .. يقترب من بعض زملائه فى القسم، ينظر لهم .. الوجوه عابسة .. النظرات مشفقة لا يبالى ويمضى .. يقابله صديقه وزميله المقرب محمد، يجده حزين الملامح، فيقترب منه يسأله ..
- ما الذى حدث فالوجوه بها أشياء تقلق ؟!
ترتعش يده التى تحمل الحقيبة، وقدماه التى تحمله .. ألم تعلم بما حدث ؟
صلاح يحاوطه الخوف والترقب لكلمات محمد ..
- ماذا حدث ؟! محمد يتردد فى إخراج الحروف .. يشعر وكأنها طلقات ستصيب صديقه ..
- ابنة رئيس القسم أخذت مكانك .....
تسقط الحقيبة من يده وتسقط معها كل الأمنيات ...
- كيف ..! وأنا الأول على القسم ؟!
- أنت الأول على القسم .. لكن والدك ليس رئيس القسم ... ؟!!

قائمة المدونات الإلكترونية