الثلاثاء، 7 مايو 2013


مدرس الخصوص.. والفتنة النائمة (4)


بقلم: على جاد


مازلت فى مكتب وكيل المدرسة أنظر إليه وهو يعض بالنواجز على حروف كلمة (أمن الدولة).. كان ذكر اسم هذا الجهاز كفيلا بأن يجعل الثلج نارا والقط فأرا والعمار خرابا، وتهديدا بالضياع والعدم وشطب أسماء الناس من كشف الأحياء..

 قلت للوكيل: فى الفصل 40 تلميذا لن يقولوا إلا الصدق.. أريد أن تصعد لهم وتسألهم إن كنت قلت هذا الكلام أم لا، وتركته ومضيت وفى قلبى حزن شديد لما يحدث، فلم تصدر منى أى إساءة للدين المسيحى، ولم أتلفظ بهذه الكلمات التى لا تصح أن تخرج من مدرس لغة عربية وتربية دينية، ولا يقوله حتى الجاهل.

وقضيت طوال اليوم فى وقفات جانبية مع كل زملائى المدرسين الذين يزيد عددهم على العشرين مدرسا.. كل واحد فيهم كان يحدثنى حديثا خاصا ومختلفا عن الآخر ما بين نصيحة بترك المدرسة ومدينة الخصوص، وبين تهديد وخوف ورعب ووعيد.. أشياء محبطة، فالكل كان حريصا على ألا يخطئ أو يعيب هذا الفعل بالرأى الذى قد يؤدى به إلى المساءلة، وما أدهشنى وأكد الضعف والخوف الذى نعيشه وقتها إشاعة اليد الخفية التى تتحكم فى اقتصاد ومصائر الخلق ومعيشتهم فى مصر عندما قال لى أحد الزملاء "الناس دى مسنودة..".

وأخذ يذكرنى بأمريكا ويدها الطولى التى تمتد معنا فى كل شىء بطريق مباشر وغير مباشر، وشعرت وكأننى لو تمسكت برأيى فقد تغضب صاحبة المعونة، ووقتها قد تمنعها وأكون سببا فى حرمان الكثير من الفقراء من رغيف الخبز الذى نستورد قمحه من أمريكا، وهو أقل ما يأكله الفقراء ليردوا جوعهم الدائم، خاصة فى تلك الأيام التى أعقبت دخول أمريكا العراق وتشتيت شعبها.
توسعت الأفكار والهواجس بعقلى وتضارب الآراء.. يأخذنى التفكير لأشياء غريبة وإذ بى أئد كل ما يشغل رأسى وأسير بين فصول المدرسة وطرقاتها مرفوع الرأس.. سمعت تلميذا يقول لزميله: "الأستاذ على هيودوه ورا الشمس".. فشعرت بسكين يغرس فى قلبى، حتى الخوف ولد مع الصغار! وأخذت أصد كل من يقابلنى بردود قاطعة، ولم أتقوقع على نفسى وأدفن رأسى فى التراب، وطلبت منهم إيصال الموضوع إلى أخر الدنيا فلن أخشى شيئا.

وإذ بناظرة المدرسة تطلب منى أن أهدأ، فهى لا تريد أن يصل الأمر لأمن الدولة والكنيسة، وطلبت دون علمى بتجهيز لجنة من مجلس إدارة المدرسة يكون فيها الأساتذة هانى قدوس وعيد نسيم وعز ميخائيل.. الثلاثة المتمسكون بإحالة الأمر لـ(جهاز أمن الدولة)، ودخلوا فصل أولى سادس وبدأوا فى استجواب التلاميذ، وكان على رأس اللجنة ناظرة المدرسة.. بعد ذلك علمت بما دار داخل الفصل، حيث شهد التلاميذ من الطرفين بأننى لم أقل ما قرأته الناظرة عليهم، وهو ما كتبه أولياء الأمور فى المذكرة، وقالوا إنه كذب ولم أتكلم إلا عن المعجزة التى ظهرت فى وسائل الإعلام العالمية، والتى أذهلت العالم وهى مشاهدة رواد الفضاء الأمريكية لوكالة (ناسا) أثناء دورانهم حول الأرض والتقاط صور للكرة الأرضية من فوق سطح القمر، فوجدوا أن الكرة الأرضية كلها مظلمة تماما، ولم يجدوا فيها شيئا مضيئا إلا مكانين فقط، وهما الكعبة المشرفة بمكة وقبر الرسول (صلى) بالمدينة، وأزاعوا الخبر مضطرين عندما صرح به أحد علماء الفضاء الموجودين بالرحلة، وكان هذا الحدث مرتبطا بآية فى المنهج الدراسى فى قوله تعالى:" يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا....".

البقية الأسبوع القادم إن شاء الله  

نشر  بجريدة الأهرام يوم الثلاثاء 12 مايو 2013

http://www.ahram.org.eg/NewsQ/208536.aspx

مدرس الخصوص.. والفتنة النائمة (3)


بقلم: على جاد

بسبب خطأ فنى فى طريقة النشر الالكترونى تأخر مقال الأسبوع الماضى 15 ساعة عن توقيت نشره، واقترح مدير تحرير الموقع علىّ أن ينشر فى اليوم التالى حتى يظل 24 ساعة كاملة منشورا، لكنى فضلت نشره الـ 9 ساعات الباقية من اليوم لأظل عند الوعد بإكمال ما بدأته..

اللقاء الفاتر غير المعتاد من زملائى بالمدرسة خاصة الأستاذين عيد نسيم وهانى قدوس اللذين كنت أحبهما واحترمهما وأتبادل معهما الحديث فى كل شىء زادنى توترا، حيث كانا يقابلانى دائما بابتسامة عريضة كنت أظنها ابتسامة صافية نابعة من القلب، ولم أفكر ولو للحظة أن أفسرها غير ذلك.. ابتسامة الأخوة فى بنى الإنسانية وأولاد آدم، حتى ولو كانت الديانة تختلف.

كان الأستاذ هانى قدوس يتمنى ألا يمد يده لولا أن دفعته ليضعها فى يدى وهو يمقتنى ويمقتها، أما الأستاذ عيد نسيم فكست وجهه نفس الابتسامة وكأن شيئا لم يكن، صعدت الى الدور الثالث حيث ميعاد الحصة الأولى فى فصل (أولى أول)، وفى أثناء شرح الحصة فاجأنى الأستاذ عز ميخائيل واقفا على باب الفصل، وبلهجة غاضبة ودون أن يسلم علىّ قال: "وكيل المدرسة عايزك فى مكتبه"، أيقنت على الفور أن هذا الاستدعاء بخصوص ما قيل.

وما أن وقفت أمام الأستاذ (أحمد عرفة) وكيل المدرسة حتى وجدته يلتفت يمينا ويسارا ثم قام من مكتبه متجها إلى باب الحجرة أغلقه واقترب منى متحدثا بصوت خافت "ايه اللى انت عملته ده؟!! انت عايز تودى نفسك فى داهية"، ثم دار حولى نصف دائرة حتى قابله كرسى مكتبه فجلس عليه واضعا يديه فوق سطح المكتب كالمتأهب لمفاجأة، رددت بنفس الاسلوب واضعا يدى على مكتبه "ماذا قلت؟! " مد يده فى عجالة وخلع نظارة الشمس التى لا يخلعها ليلا ولا نهارا ليرينى حمرة عينيه أو كما يقال فى المثل الشعبى "وريه العين الحمرة"،وبدأ يقص (الكدبة):
 "قلت فى فصل أولى سادس إن سيدنا عيسى بن مريم سوف يسجد لسيدنا محمد وأن دين الإسلام خير الأديان، وأنه الدين الحق وأن ما عداه باطل"، ثم وضع سيجارته فى طفاية السجائر الخشبية التى تفوح منها رائحة التبغ المحروق، وفتح درج مكتبه وأخرج ورقة لا يظهر لها بياض من كثرة ما هو مكتوب، وبدأ يقرأ ما فيها حتى وصل إلى "وقد قام المدرس المذكور بالاستهزاء بالدين المسيحى والسخرية منه واتهم المسيحيين بأنهم كفرة ومصيرهم النار وأن المسيح سوف ينزل فى أخر الزمان ويسجد لمحمد ....."، أشرت بيدى (كفا) وسألته فى استنكار "أهذا الكلام قلته فى الفصل؟! "فهز رأسه كالذى يطرب لحديث قائلا فى تعجب:"يقولون أنك قلته"، بدأ صوتى يعلو وسألته مندهشا "من الذى قال؟!".. "العيال المسيحيين فى فصل أولى سادس، "ومن الذى كتب هذه الورقة؟".. "أولياء الأمور ويريدون أن يرفعوا الأمر لـ(جهاز أمن الدولة)"..

البقية الأسبوع القادم.. إن شاء الله
      
نشر بجريدة الأهرام يوم الثلاثاء 29 أبريل 2013

http://www.ahram.org.eg/NewsQ/207240.aspx


مدرس الخصوص.. والفتنة النائمة (2)

بقلم: على جاد


فى مقال الاسبوع الماضى حاولت أن أضع مقدمة منطقية لما سأتحدث فيه بعد ذلك، وكان لابد من شرح الظروف التى جعلتنى أعمل فى مدرسة الخصوص وأسكن فى (حارة المسجد الكبير، عطفة المشد) وسط منطقة الخصوص، وما كتبته حقيقة أنقلها بأمانة للقارئ، حتى وإن كانت هذه الحقيقة صادمة أو مزعجة، فالمشكلات لا تحل إلا بالمواجهة وحيادية النقل والتناول الصحيح للحلول المطروحة.

فقد صدمنى تعليق الدكتور (بطرس الجاولى) على المقال السابق، ولفت انتباهى إلى مشكلة نظنها هينة، وهى التفرقة بين تلاميذ المدارس أثناء حصة التربية الدينية، وما لهذه التفرقة من أثر نفسى سيئ يلازم الإنسان طوال حياته، اقرأوا التعليق رقم (1) فى المقال السابق، ولو أننى كنت أتمنى نشره اليوم، لكن التزما بإكمال ما بدأته سأتحدث عن باقى الحكاية أولا.

كانت الحصة التى اجتمع فيها التلاميذ العشرة يوم الأربعاء الموافق 17 مارس 2004 هى بداية الفتنة، ولم أعرف ذلك إلا فى اليوم التالى عندما دخلت المدرسة باكرا، وكنت حريصا على حضور طابور الصباح لأقف خلف الطالب الذى يقرأ القرآن الكريم فى الإذاعة المدرسية لرده حينما يخطئ، بعدها أسير بين التلاميذ الذين أصبح بينى وبينهم ألفة ومحبة واحترام، ليس لتلك العصا التى فى يدى بل لشخصى الذى نال احترامهم.

بعد انتهاء الطابور قابلنى الأستاذ أحمد محمد (مدرس مادة الانجليزى)، كانت ملامح وجهه تحمل غضبا لم أعتده منه ولم أره من قبل، سألته عن السبب فقال (إيه اللى قلته فى فصل أولى سادس امبارح فى حصة الدين؟!)، تعجبت من غضبه (ما الذى قلته؟!)، اقترب منى أكثر وهمس فى أذنى (العيال المسيحيين بيقولوا إنك تعيب فى دينهم، وتقول إن سيدنا عيسى سوف يسجد لسيدنا محمد، وإن باقى الفصل من العيال المسلمين ضحكوا عليهم).

ابتعد خطوة للوراء وزادت نبرة صوته حدة (انت كده يا أستاذ على سوف تلقى بنفسك فى الهلاك وتسير فى طريق لن تستطيع تحمل عواقبه)، ثم اقترب منى ثانية هامسا (العيال أكدوا لى أن أولياء أمورهم سيرفعون الأمر للكنيسة وأنهم سيبلغون عنك أمن الدولة، وكتبوا مذكرة يتهمونك فيها بأنك تزدرى الأديان وتحرض على فتنة طائفية بين المسلمين والمسيحيين).

تمركزت عيناى فى رأسى دهشة وذهولا مما سمعته، للوهلة الأولى شعرت بالخوف من هذا الحديث؛ لأنى وحيدا فى هذه البلدة لا عائلة ولا أقارب ولا أصدقاء، لكن سرعان ما تبدل الخوف إلى شجاعة وهمة وتحدى، ليس لأنى فتوة أو قريبى اللواء فلان أو علان، ولكن لأن ما قيل أكذوبة مختلقة من العيال ومسكوا فيها الكبار، وبدأت أسمع التهديدات من زملائى المدرسين، وكان زعيمهم فى هذا الموقف الأستاذ عيد نسيم (مدرس الرياضة)، والأستاذ هانى قدوس (مدرس الدراسات).

البقية الأسبوع القادم.. إن شاء الله

نشر بجريدة الأهرام يوم الثلاثاء 23 أبريل 2013

http://www.ahram.org.eg/NewsQ/206098.aspx

مدرس الخصوص.. والفتنة النائمة (1)

بقلم: على جاد


لم أكن أفكر فى نشر هذه الحكاية وقد مر عليها ما يقرب من 9 سنوات، لكن أحداث الخصوص الأخيرة جعلتنى أقلب البيت رأسا على عقب بحثا عن (الأجندة السوداء) التى صحبتنى فى تلك الفترة، أدون بها بعض الملاحظات عن الحياة والبشر، وأحيانا كنت أدس بين صفحاتها شيئا من مذكراتى الشخصية.. فما أجمل أن تخاطب الورق وتصاحب القلم لتبث همومك وأوجاعك دون انتظار رد أو مشورة أو لوم.. أنت فقط تسجل أحداثا قد لا يقرأها غيرك، ربما فى يوم ما تعود إليها وتجد حنينا لتذكرها أو إحساسا بالسخرية من لعبة الأيام مع البشر.

وجدت (الأجندة السوداء) بعد عناء من البحث وصراخ وتوسلات زوجتى بأن أعيد ما (كركبته) لمكانه، لكنى لم أفعل.. حملت الأجندة بين يديى وسرت بتؤدة وكأنى أحمل رضيعا أهدهده وأتأمل ملامحه.. كانت عيناي تلتهم الورق وتدقق فى سطور الحبر الباهت بشغف بحثا عما كتبته عن (الفتنة) التى عشتها فى مدينة الخصوص يوم الخميس الموافق 18 مارس 2004(هكذا سجلت التاريخ واليوم فى الأجندة) وكنت طرفا أساسيا فيها بل كنت من أيقظها دون قصد.

بدأت الحكاية بالبحث عن عمل.. طفت فيه كل الصحف المصرية، الكل رحب، ليس لموهبتى الفذة فى الكتابة، لكن لأنهم لا يعطون أى فلوس؛ بمعنى (أهلا بك للتدريب بدون مقابل)، وكان ذلك صعبا بالنسبة لى، حيث تركت بلدتى وأتيت إلى القاهرة سعيا وراء حلم العمل فى بلاط صاحبة الجلالة.

وبعد أن فقدت الأمل فى أن أجد عملا بمقابل فى الصحافة لم أجد أمامى إلا البحث فى وزارة التربية والتعليم، ومن إدارة لإدارة رمانى القدر فى (مدرسة الأمير الإعدادية بنين بالخصوص) أعمل مدرسا بالحصة، كانت الحصة وقتها بـ 175 قرشا.. أظل 45 دقيقة (أبح) فى صوتى شرحا للعيال؛ ولأن مدير المدرسة يعرف أن مدرسى الحصة (غلابة) كان يعطينى 6 حصص فى اليوم.. وأخر اليوم الدراسى أعطى درسا خصوصيا فى مجموعات التقوية التى كانت تنظمها المدرسة.

كان فصل 1/6 (أولى سادس)هو الفصل الأساسى فى جدول حصصى، أعطيه حصة اللغة العربية كل يوم وحصتى التربية الدينية أسبوعيا، وكان به 40 طالبا منهم عشرة طلاب مسيحيين، وكان من المتبع فى حصة التربية الدينية أن يخير الطلاب المسيحيون بين الحضور أو الذهاب إلى فناء المدرسة، وكنت بدورى قبل بداية حصة الدين أترك باب الفصل مفتوحا ليخرج من يريد الخروج، وكانوا جميعا يخرجون، وفى ذات يوم خرج 6 طلاب وبقى 4، فقلت لهم: (حابين تحضروا الحصة) فأجابونى بـ(نعم) وتكرر هذا الموقف أكثر من مرة، وفى إحدى المرات وجدت الطلاب العشرة يحضرون الحصة جميعا.. وبعدها وقعت الفتنة.

البقية الأسبوع القادم.. إن شاء الله

نشر بجريدة الأهرام يوم الثلاثاء 15 أبريل 2013

http://www.ahram.org.eg/NewsQ/204591.aspx

قائمة المدونات الإلكترونية