الاثنين، 14 ديسمبر 2009

لحم الفقراء



هذه الرسالة كتبتها لحالة إنسانية .. تفاعلت معها فعبرت عنها بصدق .. وتفضل الأستاذ الأستاذ المحترم خيرى رمضان مدير تحرير الأهرام بنشرها فى بريد الجمعة .. ونشرت بتاريخ 11 -12 -2009 .. والحمدلله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


لحم الفقراء

أنا يا سيدى شاب تخطى العقد الثانى من عمره بسبعة أعوام، هذا بالنسبة لعمرى الحقيقى، لكن هيأتى وشكل جسدى لعجوز تخطى السبعين عاما..

من أسرة فقيرة تعيش في إحدى قرى محافظة الشرقية، مكونة من أم وولدين وبنت، كانت والدتى تخرج لسوق القرية تبيع بعض الخضراوات، ولم يكن لنا مصدر رزق إلا هي بعد انفصالها عن والدى منذ أن ولدت تقريبا، وبرغم الفقر وقِلة الرزق إلا أن تطلعنا إلى الخروج من دائرة الفقر كان حافزا لى على النجاح والتفوق، وكل أحلام أسرتى كانت أن أدخل الجامعة.


تفوقت في دراستى وحصلت على الثانوية العامة ثم التحقت بكلية الحقوق، برغم أن مجموعى كان يؤهلنى لأى كلية، لكن كان هدفى أن أصبح « وكيل نيابة ».

كانت أمى وأخى وأختى يعملون في أي شيء ليوفروا لى مصاريف الدراسة، ولاقوا الكثير من أجلى، وكان ما يصبرنى ويصبرهم على هذا العناء هو أنه سيأتى يوم وأصبح ذا شأن وأرد الجميل، تخطيت السنة الأولى بتقدير جيد جدا، وبدأ الفرح يدخل بيتنا بعد سنوات من التعب والكد، لكن كانت الأقدار تخبئ شيئا لم يكن في الحسبان، وأراد الله أن تكون حياتنا كما أراد سبحانه وتعالى لا كما حلمنا أن نكون، فذات يوم وأنا في طريقى إلى الجامعة إذ بسيارة شرطة تسير بسرعة جنونية تصطدمنى من الخلف لتتركنى كومة من اللحم تغطيها الدماء، وظللت أنزف لأكثر من ساعة، بعدها حملنى الناس إلى المستشفى بعد أن يئسوا من وصول الإسعاف.

ونجوت بإعجوبة من هذا الحادث بعدة عاهات مستديمة، كان سببها سوء التعامل مع حالتى، وكتب الله لى الحياة ربما لمصير أصعب من الموت، فقد خرجت من الحادث بكسور في جميع جسدى، لأبدأ بعدها رحلة علاج مريرة ذقت فيها وأهلى جميع ألوان العذاب والذل، حتى أصبح جسدى حقل تجارب لدكاترة الامتياز في كليات طب مصر، اتنقل من مستشفى جامعى إلى آخر باحثا عن أقل التكاليف، فليس لأمثالنا إلا هذه المستشفيات التي تفتقد لكل معانى الرحمة
والإنسانية والخوف من الله.

ما أصعب المرض يا سيدى عندما يصيب الفقراء فيزيد معاناتهم بجانب الحرمان والجوع، فقد يهون الفقر أمام الصحة، لكن أن يجتمع الفقر والمرض معا فهذا أمر لا يمكن تصوره وأدعو الله ألا يكتبها لأحد، وبعد مشوار طويل من الألم قال أحد الأطباء لوالدتى « لو عايزه ابنك يمشى تانى على رجليه.. خديه من هنا » يقصد أحد المستشفيات الجامعية الذي كنت أعالج فيه.

وبالفعل خرجت على كرسى متحرك، وذهبت بى أمى إلى أحد الأطباء المشهورين فطلب مبلغا كبيرا لإجراء عملية جراحية، بعدها أستطيع المشى.. طرقت أمى كل الأبواب ولم يغثها أحد، ولم تجد شيئا تبيعه لتعالجنى إلا كليتها..

نعم سيدى.. الفقر يجعل الإنسان يبيع لحمه لينقذ أخيه أو أبيه أو ابنه أو أمه، ما كان أمام أمى إلا أن تبيع جزءا من جسدها لتنقذ ابنها من العجز أو الموت، والغريب يا سيدى أنها وجدت من يشترى بل أكثر من مشتر، وأخذوا يزايدون.. حتى أجسادنا الهزيلة لم يرحمها أصحاب المال، ووجدوا فيها «سبوبة» يتربحون منها دون أن يسألوا أنفسهم.. لماذا الإنسان يبيع جزءا من جسده؟

وعندما عرف أخواتها «أخوالى» بهذا الأمر منعوها، ليس خوفا عليها، ولكن خوفا من العار الذي سيلحق بهم إذا فعلت ذلك، فجمعوا لها مبلغا قيمته 20% من المبلغ المطلوب للعملية.

وعندما عرفت بما فعلته أمى لأجلى شعرت بالحسرة والعجز والذل، وانتابنى حزن واكتئاب لدرجة إننى فكرت في الانتحار أكثر من مرة.. وحاولت، لكن إيمانى بالله وخوفى منه منعانى، واعتبرت عجزى هذا قدرا كتبه الله لى.. فكيف أجزع من إرادة الله!!

وحمدت الله واستغفرته، لكن كل ما كان يعذبنى ويبكينى هو حالة أمى التي لم تجف لها دمعة منذ أن أصبحت طريح الفراش، وهى ترى حلم العمر وولدها الأكبر كومة آدمية لا يتحرك فيها إلا العينان واللسان، وأخيرا اهتدت أمى إلى بيع البيت الذي نعيش فيه بعد أن أقنعتها بأن بيع كليتها حرام، وأننى لن أقبل أن أعالج بفلوسها، كان الأمر صعبا علينا لكن ما باليد حيلة.. باعت أمى البيت، وأُجرِيت لى عملية تم فيها تركيب عدة شرائح ومسامير، استطعت بعدها أن أمشى على عكازين.

مر عام وأنا طريح الفراش أتحرك بطريقة معينة، وأى خطأ يحدث تكون نتيجته كسرا جديدا أو نزيفا في أي جزء من جسدى، أثناء هذه الفترة لم أذهب للكلية، ولم أستطع حضور الامتحان فرسبت.

كنت في العشرين من عمرى والدنيا كلها تضحك لمن في مثل سنى إلا أنا، جلوسى وحدى لساعات طويلة علمنى التأمل في الأشياء وفى خلق الله وتصرفاتهم، وأن ما حدث لى ما هو إلا ابتلاء ومصيبة مكتوبة لى.

ووضعت قول الله سبحانه وتعالى: « وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون..»، وقول النبي صلى الله عليه وسلم :
( أمرهم كله لهم خير إن أصابتهم سراء شكروا، وإن أصابتهم ضراء صبروا ) أمام عينى وفى عقلى وقلبى، وتعلمت كيف يكون الصبر على المصائب مهما تكن صعوبتها، فلم أقنط أو أعترض، وكل ما أفكر فيه هو كيف أخرج أمى من الحزن الذي سكنها منذ الحادث.. كان الألم يقتلنى وأبتسم..لا أتوجع أو أشكى حتى لا أزيد من هموم أمى وأخوتى.. أليس كتم الآه يا سيدى عذاب آخر أشد من الألم نفسه؟

كانت المفاجآت مازالت تعبس بحياتنا وهى تخرج تِباعا من جعبة الأيام، فما أن خرجتُ من المستشفى حتى شعرت أمى بألم في بطنها، وبعد الكشف والتحاليل تبين أنها مصابة بالفيروس الكبدى، وتطلَّبْ علاجها شراء بعض الأدوية المكلفة التي لا نملك منها مليما واحدا، خاصة بعد أن بعنا كل ما لدينا، وليس لنا أي دخل إلا ما يقدمه أخى الأصغر، ولا يكفى شيئا.

توقفت عن الدراسة في الكلية وأخذت أبحث عن عمل، وكان من الصعب أن أجد عملا يقبلنى بعكاذى، لكن رحمة الله واسعة، عرف أحد الصالحين بقصتى فأخذنى لأعمل عنده في محل بقالة براتب شهرى خصصته كله لشراء الدواء لأمى، لن أحكى لك يا سيدى عن مدى البؤس والحرمان الذي عشناه، حتى إننى كنت اقطع الرغيف نصفين بينى وبين أخى لنأكله عشاء أو غداء، وكنا نأكل أي شيء لنوفر ثمن العلاج لأمى، وكثيرا ما نمنا ليال بدون عشاء، وأنا أسخر من المثل الذي يقول « ما حدش بيبات من غير عشا » لأ.. فيه.. وفيه أكثر مما يتخيله البشر!!

كنت راضيا بل كنت سعيدا بأننى أستطيع توفير ثمن العلاج لأمى، وذات يوم أتى لى أحد أصدقائى وأشار علىَّ أن ألتحق بمعهد الخدمة الاجتماعية لأنه لن يحتاج إلى مصاريف كثيرة، وفى الوقت نفسه أستطيع الحصول علي شهادته وأنا أعمل، سحبت أوراقى من كلية الحقوق بعد أن فقدت الأمل في الاستمرار فيها، ويعلم الله وحده كيف كانت حالتى يومها وكيف تصبح حالتى كلما تذكرت ذلك اليوم.

أنهيت الدراسة بالمعهد وحصلت على شهادته وأنا ما زلت أعمل، لكن القدر كان يخبئ شيئا آخر لتكتمل المأساة، فإذ بصندوق خشبى به بضاعة يقع فوق زراعي اليمنى فيهشمها، وآخر فوق رأسى أصابنى بعمى نصفى، لأرى الدنيا نصف رؤية، حيثُ يكسو الضباب كل ما أراه، أما زراعى فقد تم تجبيسها بطريقة خطأ أحدثت بها شبه شلل، لا أستطيع استخدامها في رفع ورقة من الأرض وتحتاج إلى عملية مكلفة لتعود إلى طبيعتها، فأصبحت بزراع مشلولة وأخرى مكسورة، بجانب الشرائح والمسامير المثبتة في جسدى وتوخزنى في كل حركة، وتدهورت حالتى الصحية نتيجة ما تجرعته من أدوية على مدى مشوار مرضى الذي استمر لأكثر من سبع سنوات وسيظل يلازمنى حتى نهاية العمر.

وأخيرا رقدت بجوار أمى وتراكمت علينا الديون، أما أخى الأصغر فيعمل باليومية ولا يكفى ما يتحصل عليه شراء ولو 10% من علاج أمى أو علاجى، أنا لا أبالى بما أنا فيه من ألم ووجع وعجز، بل لم أعد أشترى أي دواء، فقد تأقلمت على الألم ورضيت والحمدلله، وكل ما يشغلنى ويحزننى ليس ما بى من عجز وألم، لكن ما تعانيه أمى من المرض ولا أستطيع فعل شيء لها.

سيدى.. هذه حكاية شاب في السبعينيات من العمر، برغم أن تاريخ الميلاد والأوراق الرسمية تقول أن عمرى 27 عاما، لكن كيف نصدق الأوراق ونكذب الواقع، فهذا هو حالى.. شاب عجوز بفعل المرض وحوادث الدهر ـ عافاكم الله ـ استخرت الله بعد أن أشار علىَّ فاعل خير أن أرسل لكم حكايتى لتعينونى على ما أنا فيه بعمل أو وظيفة أو أي مشروع أعيش منه وأسرتى.


.. نشرت فى جريدة " الأهرام " صفحة (13) بريد الجمعة
.......... بتاريخ 11-12-2009



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

قول وعبر .. ما تخافشى السكات هو اللى يخوف:

قائمة المدونات الإلكترونية