الأربعاء، 14 يناير 2009

الحساب


تسير في نفس الطريق.. تدخل نفس المكان.. تجلس إلى نفس المنضدة.. يأتي نفس الجارسون.. يبتسم بلطف وينحني لتحيتك..

ـ تحت أمرك يا فندم

تنظر في ساعتك.. تتظاهر بأنك تنتظرها، وتطلب نفس العصير الذي تحبه هي .. تنظر إلى الكرسي المقابل لك الذي تشعر فيه لأول مرة أنه جماد.. تتجسد أمامك بوجهها الضحوك السمح، وعينيها الناعسة وفمها المرسوم وثغرها البسّام وخصلات الشعر المتدلية على جانبي الوجه وأعلى الجبهة.. ترتاح نفسك للذكرى .. تشعر بالنشوة وإحساس بالوحدة يجتاح كيانك.. يطوف بقلبك في المكان، عبيرها الزكي الرائحة يشغل الفراغ الذي بينك وبين الكرسي .. تمتد يدك بهدوء على المنضدة .. يضع الجارسون العصير فتنتبه ويتملكك الخجل .. ترتبك .. يتغير لون وجهك .. تضطرب ملامحك .. تبتسم ..

ـ شكرا
..

يبتسم الجارسون ابتسامة ذات معنى .. ويهرب طيفها من بين دوائر دوامة عقلك المزدحم بالذكريات لتجد نفسك وحيدا غريبا.. يضيق بك الفراغ الفسيح ويضيق صدرك، وتتناثر الأحزان من حولك ويقتلك الندم .. يعصف بك المكان رغم سكون الهواء .. تجدب بك الحديقة رغم كثرة الورود والأزهار .. تتلفت يمينا ويسارا.. تدور بعينيك في المكان .. تطأطئ رأسك بحسرة ..

- ما فائدة الحب ولما ذا نحب ؟!
- عندما أنتهي من دراستي سأعمل في أي شىء وأتقدم لخطبتك

- تنتهي من دراستك !! ثم تشتغل .. ثم تتقدم لخطبتي .. ثم .. ثم .. كم من العمر سيمر حتى تحقق هذا ؟! سنة.. سنتان.. ثلاث.. خمس.. عشر، نحن نعيش أحلاما وردية نرسمها بخيالنا وطموحنا ومستقبلنا المجهول، نعلق الآمال والأمنيات على مصير متأرجح في زمان تلاشت فيه كل الطموحات، وأقدار تلهو بنا كريشة في مهب الريح .. لن نكون لبعض .. انظر إلى ساعتك التي تزين بها معصمك، من الذي اشتراها؟! لقميصك المستورد وبنطالك الشيك، وهذا الحذاء الإيطالي الفخم.. من الذي دفع ثمن كل هذا؟!

يشعر بالخزي.. ينظر في الأ رض يتمنى أن تنشق وتبلعه ليهرب من الإجابة..
- والدك.. أهو الذي سيزوجك ؟! أهو الذي سيدفع إيجار الشقة .. دا إذا وجدناها من أصله ؟! أهو الذي سيعطيني مصرف البيت ؟! أهو الذي سيعالجني إذا مرضت ؟!
يصرخ في وجهها مشوحا بيده ..
- كفى .. كفى
تهدأ ثورتها .. تنظر في الأفق البعيد كطير يشتاق للطيران في الفضاء الفسيح، بعيدا عن قيود الحياة، ويسري الصمت بينهما في تسلل، ليغلف المكان بالسكون .

قامت من جلستها حتى استبان وقوفها، وأنت مازلت جالسا في ذهول لا تصدق ما يحدث .. ترفع عينيك إليها.. تتأملها .. تحجب دمعا يتموج فيهما، يترقرق في مآقيهما .. نظراتك تتوسل لها .. تترجاها ألا تتركك، أن تبقى بجانبك .. كل هذا يجول بخاطرك .. تنطقه عيناك، لكن يعجز لسانك عن النطق به، فأراحتك من هذه النظرات ..

- من لا يستطيع أن يتوج حبه بالزواج فلا يوجع قلبه بنار الفراق ..

وتركتك ممتقع اللون .. مدمع العينين .. يحاوطك الفشل .. يوجعك الفراق .. يلسعك الألم، وتدور بك الدنيا، وشرعت تهرول في مشيتها المرتبكة وأوصالها المتخبطة.. تحاول الخروج بأقصى سرعة حتى لا ينثني عزمها عما نوت .. رعشة تسري في جسدها .. خطواتها ثقيلة تجر قدميها الملتصقتين بالأرض .. بحزر شديد نظرت لتجدك منكمشا في الكرسي .. منزويا في المنضدة، تحتضن زراعيك بخوف مطأطأ رأسك عليهما ..
شيء دافئ ينساب على خديها .. ضباب يكسو الطريق أمامها وسحب من الدموع تتابع في غيمة عينيها، وضعت ثقلها على قدميها بعناد وخرجت .. يأتي الجرسون يرفع كوب العصير .. تنتبه لتصحو على ما تبقى من الحب .. الطريق .. المكان .. المنضدة .. الجارسون .. تُخرٍج حافظة نقودك التي أهدتها لك في عيد ميلادك الأخير .. تتحسسها بيديك المرتعشتين .. يئن قلبك .. يقطر دما .. تحن جوارحك، وتشعر بالراحة بوجودك في هذا المكان .. صوت يأتيك من بعيد .. تلتفت .. الجارسون يبتسم :

ـ « الحســــــــــــــاب .. » !!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

قول وعبر .. ما تخافشى السكات هو اللى يخوف:

قائمة المدونات الإلكترونية