قصة قصيرة
نُشِرت بجريدة الأهرام المسائى
فى 27/3/2007
سوف تجلس العمر كله هكذا .. لقد أدمنت القرفصاء كالمصطلى بنهم فى ليلة برد قارس يلعب فيه السقيع دوره ليبدد دفء الأجساد إلى برد مفرط .. تضع ذقنك المدببة على رُكْبَتَيك .. تشعر بالراحة الجسدية لهذا الوضع، لكن أين راحة العقل وأنت تجلس تتألم وأنت تتأمل ذلك البرواز المعلق على الحائط المقابل لك .. لقد تعودت على هذه الأريكة المقابلة للبرواز، حتى أصبحت جزءا منك .. تتأمل الكلمات المكتوبة بداخله .. تسخر منها .. تمقتها .. كلمات رنانة ذات وقع فخم على أذن السامع لها .. تشعر صاحبها بالفخر .. الفخر فقط، لكن أين الطموح .. الابتكار .. المستقبل .. العمل .. الوظيفة !! لا شىء ، ينظر .. يرمق .. يدقق .. يغمض عينيه .. يهز رأسه بعصبية ثم ينفث زفيرا تهتز له شفتاه، ثم ينفجر فى ضجر .. يا ليتنى ما قضيت كل هذا العمر أسعى جاهدا وراء هذا البرواز.
سوف تجلس العمر كله هكذا .. لقد أدمنت القرفصاء كالمصطلى بنهم فى ليلة برد قارس يلعب فيه السقيع دوره ليبدد دفء الأجساد إلى برد مفرط .. تضع ذقنك المدببة على رُكْبَتَيك .. تشعر بالراحة الجسدية لهذا الوضع، لكن أين راحة العقل وأنت تجلس تتألم وأنت تتأمل ذلك البرواز المعلق على الحائط المقابل لك .. لقد تعودت على هذه الأريكة المقابلة للبرواز، حتى أصبحت جزءا منك .. تتأمل الكلمات المكتوبة بداخله .. تسخر منها .. تمقتها .. كلمات رنانة ذات وقع فخم على أذن السامع لها .. تشعر صاحبها بالفخر .. الفخر فقط، لكن أين الطموح .. الابتكار .. المستقبل .. العمل .. الوظيفة !! لا شىء ، ينظر .. يرمق .. يدقق .. يغمض عينيه .. يهز رأسه بعصبية ثم ينفث زفيرا تهتز له شفتاه، ثم ينفجر فى ضجر .. يا ليتنى ما قضيت كل هذا العمر أسعى جاهدا وراء هذا البرواز.
تأتى والدته على صوته المدوى بأركان البيت المترب، فما عادت الأم العجوز تهتم بالحياة .. يسكن قلبها الحزن منذ أن تخرج ولدها الوحيد .. وهى تراه محطما مكتئبا، كل الأبواب توصد فى وجهه، ويعود يجلس جلسته المعتادة لساعات طويلة يتأمل البرواز، ترقيه .. تتألم لأجله، لكن ما باليد حيلة .. تجلس بجواره .. تطيب خاطره .. تواسيه .. تخفف عنه بالكلمة المعتادة : "الصبر يا ابنى .. " يرفع رأسه القابع بين ركبتيه، وينظر لها بألم وحسرة .. بعينين تتموج فيهما الدموع كموج بحر هائج فى يوم عاصف، وما أن تتقابل العيون حتى تنهمر الدموع بفيض ترسم على خديه مجرى لسيلها المتدفق ..
- لقد يئست يا أمى .. كرهت الدنيا .. كرهت نفسى .. كرهت ملابسى .. كرهت البرواز .. كرهت الفراغ الذى بداخلى ويحيط بى .. من أنا ؟!
أين كينونتى ؟! أين وجودى كإنسان مجتهد .. أين جهدى طيلة سنوات التعليم ؟!
كل هذا لا شىء .. لاشىء !!
- لقد يئست يا أمى .. كرهت الدنيا .. كرهت نفسى .. كرهت ملابسى .. كرهت البرواز .. كرهت الفراغ الذى بداخلى ويحيط بى .. من أنا ؟!
أين كينونتى ؟! أين وجودى كإنسان مجتهد .. أين جهدى طيلة سنوات التعليم ؟!
كل هذا لا شىء .. لاشىء !!
أربعة أعوام من الجهد والتعب والسهر والمذاكرة والقلق والترقب والنجاح بتفوق فى كل عام .. أين كل هذا ؟! ما فائدة هذا البرواز وما فائدتى ؟!
يهدأ فى حضن أمه .. يرفع رأسه للبرواز فتقع عيناه على ما بداخله ..
" تشهد جامعة القاهرة أن الطالب صلاح محمد المنياوى قد حصل على بكالوريوس العلوم - قسم كيمياء - بتقدير امتياز .......".
يطأطئ رأسه المتخوم بالأشياء .. " ألف مبروك يا صلاح أنت المرشح الوحيد بلا منافس للتعيين معيدا بالقسم .. وما أدراك ما معيد .. يعنى مركز مرموق، وشهرة وعلم وحياة كريمة مترفة وفلوس وغيره .. ألف مبروك انت تستحق ذلك ..
يضحك صلاح .. تلمع عيناه بدموع الفرح .. ملامحه تبتسم .. وجهه مشرب بالفرحة، لقد وصلت يا صلاح إلى ما سعيت وتمنيت، لقد حققت الحلم ووضعت قدميك على أولى درجات سلم العلم والارتقاء والتقدم والاكتشاف وتحقيق الذات وإثبات أن المصرى عبقرى متميز فى كل المجالات .. الآن تسطيع أن تكون ..
يهدأ فى حضن أمه .. يرفع رأسه للبرواز فتقع عيناه على ما بداخله ..
" تشهد جامعة القاهرة أن الطالب صلاح محمد المنياوى قد حصل على بكالوريوس العلوم - قسم كيمياء - بتقدير امتياز .......".
يطأطئ رأسه المتخوم بالأشياء .. " ألف مبروك يا صلاح أنت المرشح الوحيد بلا منافس للتعيين معيدا بالقسم .. وما أدراك ما معيد .. يعنى مركز مرموق، وشهرة وعلم وحياة كريمة مترفة وفلوس وغيره .. ألف مبروك انت تستحق ذلك ..
يضحك صلاح .. تلمع عيناه بدموع الفرح .. ملامحه تبتسم .. وجهه مشرب بالفرحة، لقد وصلت يا صلاح إلى ما سعيت وتمنيت، لقد حققت الحلم ووضعت قدميك على أولى درجات سلم العلم والارتقاء والتقدم والاكتشاف وتحقيق الذات وإثبات أن المصرى عبقرى متميز فى كل المجالات .. الآن تسطيع أن تكون ..
يمشى فى الشارع بفرحته .. يحتضن الزحام والأشياء بعينيه المتراقصة بالفرحة .. يدخل بيته بثورة من التهليل والتحميد على فضل الله عليه .. يحتضن والدته ويدور بها فى ردهة البيت .. ابنك أصبح معيدا بالكلية يا ماما .. زغاريت تملأ البيت .. الجيران والناس يهنئون والحلوى والمرطبات توزع على كل آت وذاهب.
وسكن الليل ونامت كل العيون ولم تنم عيناك ولم يغمض لهما جفن من فرط الفرحة .. أخذت تراجع تجاربك اختراعاتك مقترحاتك مهاراتك أفكارك العبقرية ..
وبدأ الصبح ينشر نوره، وتسربلت شرفتك بضوء النهار، وفى رقة ونعومة تسللت إشاعة الشمس لحجرتك، فترى فيها إشراقة المستقبل .. تتوضأ تصلى الصبح وتتبعه بركعتى شكر لله .. ترتدى أشيك وأفضل ما لديك من ملبس .. ترتب حقيبتك الكيميائية .. تتهيأ أمام مرآتك .. تصفف شعرك .. تنظر له بزوايا عينيك من كل جانب فى المرآة .. تُقَبِلْ يدى والدتك فتدعو لك ثم ترقيك بالمعوذتين وآية الكرسى ..
ويخرج مبتهجا للكلية، يدخلها وهو يداعب كل من يقابله .. يتبادل التهانى مع زملائه .. يقترب من بعض زملائه فى القسم، ينظر لهم .. الوجوه عابسة .. النظرات مشفقة لا يبالى ويمضى .. يقابله صديقه وزميله المقرب محمد، يجده حزين الملامح، فيقترب منه يسأله ..
- ما الذى حدث فالوجوه بها أشياء تقلق ؟!
وسكن الليل ونامت كل العيون ولم تنم عيناك ولم يغمض لهما جفن من فرط الفرحة .. أخذت تراجع تجاربك اختراعاتك مقترحاتك مهاراتك أفكارك العبقرية ..
وبدأ الصبح ينشر نوره، وتسربلت شرفتك بضوء النهار، وفى رقة ونعومة تسللت إشاعة الشمس لحجرتك، فترى فيها إشراقة المستقبل .. تتوضأ تصلى الصبح وتتبعه بركعتى شكر لله .. ترتدى أشيك وأفضل ما لديك من ملبس .. ترتب حقيبتك الكيميائية .. تتهيأ أمام مرآتك .. تصفف شعرك .. تنظر له بزوايا عينيك من كل جانب فى المرآة .. تُقَبِلْ يدى والدتك فتدعو لك ثم ترقيك بالمعوذتين وآية الكرسى ..
ويخرج مبتهجا للكلية، يدخلها وهو يداعب كل من يقابله .. يتبادل التهانى مع زملائه .. يقترب من بعض زملائه فى القسم، ينظر لهم .. الوجوه عابسة .. النظرات مشفقة لا يبالى ويمضى .. يقابله صديقه وزميله المقرب محمد، يجده حزين الملامح، فيقترب منه يسأله ..
- ما الذى حدث فالوجوه بها أشياء تقلق ؟!
ترتعش يده التى تحمل الحقيبة، وقدماه التى تحمله .. ألم تعلم بما حدث ؟
صلاح يحاوطه الخوف والترقب لكلمات محمد ..
- ماذا حدث ؟! محمد يتردد فى إخراج الحروف .. يشعر وكأنها طلقات ستصيب صديقه ..
- ابنة رئيس القسم أخذت مكانك .....
تسقط الحقيبة من يده وتسقط معها كل الأمنيات ...
- كيف ..! وأنا الأول على القسم ؟!
- أنت الأول على القسم .. لكن والدك ليس رئيس القسم ... ؟!!
صلاح يحاوطه الخوف والترقب لكلمات محمد ..
- ماذا حدث ؟! محمد يتردد فى إخراج الحروف .. يشعر وكأنها طلقات ستصيب صديقه ..
- ابنة رئيس القسم أخذت مكانك .....
تسقط الحقيبة من يده وتسقط معها كل الأمنيات ...
- كيف ..! وأنا الأول على القسم ؟!
- أنت الأول على القسم .. لكن والدك ليس رئيس القسم ... ؟!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
قول وعبر .. ما تخافشى السكات هو اللى يخوف: