الأحد، 6 سبتمبر 2009

الجب




أماكـن في القـرآن

الجُــــبّ

علي جاد

نحن أمام مكان شهد خيانة أخوة يوسف ـ عليه السلام ـ للعهد الذى أخذوه على أنفسهم بأن يحموا أخيهم الأصغر من أى خطر ويردونه سالما لأبيه، لكن النفس البشرية أمارة بالسوء فاتفقوا على إلقائه فى الجب، وهو البئر الذي ألقي فيه يوسف ـ عليه السلام ـ وقد قيل إنه في مدينة نابلس، وتتبدى لنا في مخاوف سيدنا يعقوب عليه السلام صورة لواقع بشري كثير التكرار، صورة العلاقة بين الأخوة وعداء الشيطان للإنسان، كما جاء في سورة يوسف :" قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين ."

" فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ "
يوسف 15

كانت أولى خطوات الخداع للأب الكهل عندما طلبوا منه أن يرسل معهم يوسف يرتع ويلعب، وأقسموا أنهم له لناصحين، يقول ابن كثير: هذا فيه تعظيم لما فعلوه أنهم اتفقوا كلهم على إلقائه في أسفل ذلك الجب، وقد أخذوه من عند أبيه وهم يظهرون له إكرامهم وحبهم لأخيهم ما بسط وشرح صدره وأدخل السرور عليه، فيقال إن يعقوب ـ عليه السلام ـ لما بعثه معهم ضمه إليه وقبَّله ودعا له، ولمّا غابوا عن عين أبيه وتواروا عنه شرعوا يؤذونه بالقول من شتم ونحوه، والفعل من ضرب ونحوه ثم جاءوا به إلى ذلك الجب الذي اتفقوا على رميه فيه، فربطوه بحبل ودلوه فيه، فكان إذا لجأ إلى واحد منهم لطمه وشتمه، وإذا تشبث بحافات البئر ضربوا على يديه ثم قطعوا به الحبل من نصف المسافة، فسقط في الماء فغمره، فصعد إلى صخرة في وسطه يقال لها "الراغوفة".

لم يكن الجب حاضرا فى ذهن من اقترح ذلك إلا عندما رآه فيما هم يفكرون فى طريقة للخلاص من أخيهم، هذا ما أوضحه القرطبى فى كلامه عن "الجب" فقال: إن يعقوب عليه السلام لما أرسله معهم أخذ عليهم ميثاقا غليظا ليحفظنه، وسلمه إلى روبيل وقال : "يا روبيل إنه صغير، وتعلم يا بني شفقتي عليه، فإن جاع فأطعمه، وإن عطش فاسقه، وإن أعيا فاحمله ثم عَجِّلْ برده إلي"، قال : فأخذوا يحملونه على أكتافهم، لا يضعه واحد إلا رفعه آخر، ويعقوب يشيعهم ثم رجع، فلما انقطع بصر أبيهم عنهم رماه الذي كان يحمله إلى الأرض حتى كاد ينكسر، فالتجأ إلى آخر فوجد عند كل واحد منهم أشد مما عند الآخر من الغيظ والعسف، فاستغاث بروبيل وقال : "أنت أكبر إخوتي، والخليفة من بعد والدي عليَّ، وأقرب الإخوة إليَّ، فارحمني وارحم ضعفي"، فلطمه لطمة شديدة، فعلم أن حقدهم من أجل رؤياه، فتعلق بأخيه يهوذا وقال : "يا أخي ارحم ضعفي وعجزي وحداثة سني، وارحم قلب أبيك يعقوب"، فرَّق قلب يهوذا فقال : والله لا يصلون إليك أبدا ما دمت حيا، ثم قال : يا إخوتاه إن قتل النفس التي حرم الله من أعظم الخطايا، فردوا هذا الصبي إلى أبيه، ونعاهده ألا يحدث والده بشيء مما جرى أبدا، فقال له إخوته : والله ما تريد إلا أن تكون لك المكانة عند يعقوب، والله لئن لم تدعه لنقتلنك معه، قال : فإن أبيتم إلا ذلك فهاهنا هذا الجب الموحش القفر الذي هو مأوى الحيات والهوام فألقوه فيه، فإن أصيب بشيء فهو المراد، وقد استرحتم من دمه، وإن انفلت على أيدي سيارة يذهبون به إلى أرض فهو المراد، فأجمع رأيهم على ذلك، فهو قول الله تعالى : " فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب ".

ومما ذكر من قصته ـ إذ ألقي في الجب ـ ما ذكره القرطبى عن السدي وغيره أن إخوته لمّا جعلوا يدلونه في البئر، تعلق بشفير البئر، فربطوا يديه ونزعوا قميصه، فقال : "يا إخوتاه ردوا عليّ قميصي أتوارى به في هذا الجب، فإن مت كان كفني، وإن عشت أواري به عورتي"، فلما ذكروه برؤياه قال : "إني لم أر شيئا"، فدلوه في البئر حتى إذا بلغ نصفها ألقوه إرادة أن يسقط فيموت، وقيل : إن شمعون هو الذي قطع الحبل إرادة أن يتفتت على الصخرة، فقام على الصخرة وجعل يبكي، فنادوه، فظن أنها رحمة عليه أدركتهم، فأجابهم، فأرادوا أن يرضخوه بصخرة فمنعهم يهوذا، وكان يهوذا يأتيه بالطعام.

ولمّا تيقن يوسف أنهم لن ينقذوه قال : "يا إخوتاه إن لكل ميت وصية، فاسمعوا وصيتي، قالوا : وما هي ؟ قال : "إذا اجتمعتم كلكم فأنس بعضكم بعضا فاذكروا وحشتي، وإذا أكلتم فاذكروا جوعي، وإذا شربتم فاذكروا عطشي، وإذا رأيتم غريبا فاذكروا غربتي، وإذا رأيتم شابا فاذكروا شبابي"، فقال له جبريل : "يا يوسف كف عن هذا واشتغل بالدعاء، فإن الدعاء عند الله بمكان"، ثم علمه فقال : "قل اللهم يا مؤنس كل غريب، ويا صاحب كل وحيد، ويا ملجأ كل خائف، ويا كاشف كل كربة، ويا عالم كل نجوى، ويا منتهى كل شكوى، ويا حاضر كل ملإ، يا حي يا قيوم أسألك أن تقذف رجاءك في قلبي، حتى لا يكون لي هم ولا شغل غيرك، وأن تجعل لي من أمري فرجا ومخرجا، إنك على كل شيء قدير".

حلقات تنشر يوميا فى جريدة " السياسة " الكويتية طول شهر رمضان الكريم ..

وهذه الحلقة نشرت يوم 4 رمضان 1430 - 25/ 9 / 2009

http://www.al-seyassah.com/PDF/09/AUGST/25/35.pdf


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

قول وعبر .. ما تخافشى السكات هو اللى يخوف:

قائمة المدونات الإلكترونية