أماكن فى القرآن
القرية
علي جاد
كل الأماكن التى تعرضنا لها كانت شاهدة على أفعال البشر بكل تفاصيلها، حلوها ومرها .. خيرها وشرها .. كفرها وإيمانها، وكأنها كتاب سطر فيها البشر أحداث حياتهم ..
فاليوم نحن فى أنطاكية على حدود تركيا، بصحبة آية من آيات القرآن الكريم ذكرت هذه المدينة أو القرية، فهى واحدة من أشهر المدن الست عشرة التي أنشأها في مستهل القرن الثالث عشر، أحد القادة الذين خلفوا الإسكندر المقدوني، وتقع في شمال غربي سورية على نهر العاصي قرب مصبه.. يذكر ياقوت الحموى فى كتابه " معجم البلدان " أن أنطاقية عاشت حياة زاهرة قضت عليها الأطماع والتآمر على امتلاكها، فقد احتلها الرومان سنة 64 ق.م فدمروها بعد أن عرفت ازدهارا سياسيا وتجاريا وعمرانيا كبيرا..
وفى سنة 528 م هجرها أهلها قبل أن تدمر الزلازل ما تبقى من مبانيها وسكانها، فتحها المسلمون بقيادة عبيدة ابن الجراح سنة 16 هـ/ 637م في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، ثم انتزعها البيزنطيون سنة 966م، وظلت خاضعة لحكمهم حتى استولى عليها الصليبيون سنة 1098م، وظلت المدينة فى يد الصليبيين فى الفترة الواقعة بين القرنين الثانى والثالث عشر حتى قيام الظاهر بيبرس بتحريرها منهم سنة 1268م، وبقيت تحت حكم المماليك إلى أن سقطت بيد العثمانيين سنة 1517م، وغدت واحدة من مدن سورية بعد التحرر من الحكم العثماني وألحقت إداريا بلواء اسكندرون الذي اقتطعته تركيا من سورية سنة 1939م، وهى الآن مزار سياحى يقصدها السياح لأهميتها التاريخية والدينية.
" واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون " سورة يس الآية (13)
بداية أذكر ما اتفق عليه المفسرون والعلماء فى ماهية القرية المذكورة فى الآية الكريمة، فقد ذكر الطبرى فى تفسيره لهذه الآية وكذلك القرطبى، والإمام مسلم فى " صحيح البخارى " أن هذه القرية هي أنطاكية في قول جميع المفسرين، نسبت إلى أهل أنطبيس وهو اسم الذي بناها ثم غير الاسم لما تم تعريبه، وكان بها فرعون يقال له أنطيخس بن أنطيخس يعبد الأصنام، فأرسل الله إليه ثلاثة : وهم صادق، وصدوق، وشلوم، والخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وسلم، بأن يضرب لقومه مثلا بأصحاب القرية، وإنذار هؤلاء المشركين أن يحل بهم ما حل بكفار أهل القرية المبعوث إليهم ثلاثة رسل، قيل : رسل من الله على الابتداء، وقيل : إن عيسى بعثهم إلى أنطاكية للدعاء إلى الله .
وذكر الأندلسى فى (التفسير الكبير) أن القرية المقصودة فى الآية الكريمة هى أنطاكية، يقول الأندلسى: لا خلاف في قصة أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون الثلاثة، جمعهم في المجيء وإن اختلفوا في زمن المجيء، والظاهر من قوله تعالى "أرسلنا" أنهم أنبياء أرسلهم الله، ويدل عليه قول المرسل إليهم "ما أنتم إلا بشر مثلنا"، وهذه المحاورة لا تكون إلا مع من أرسله الله، وهذا قول ابن عباس وكعب، وقال قتادة وغيرهم إنهم من الحواريين بعثهم عيسى - عليه السلام - حين رفع وصلب الذي ألقي عليه الشبه، فافترق الحواريون في الآفاق، فقص الله قصة الذين ذهبوا إلى أنطاكية، وكان أهلها عباد أصنام، "فكذبوهما" أي كذبوا دعواهم إلى الله، وأخبرا بأنهما رسولا الله، " فكذبوهما فعززنا بثالث": أي قوينا وشددنا، فراجعتهم الرسل بأن ردوا العلم إلى الله وقنعوا بعلمه، وأعلموهم أنهم إنما عليهم البلاغ فقط، وما عليهم من هداهم وضلالهم، وفي هذا وعيد لهم، ووصف البلاغ بالمبين، وهو الواضح بالآيات الشاهدة بصحة الإرسال، كما روي في هذه القصة من المعجزات الدالة على صدق الرسل من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الميت.
جاء خبر الرسل الثلاثة بأنهم كانوا مرسلين من عيسى ـ عليه السلام ـ فذكر ابن مسعود البغوى فى "تفسير البغوى" أن عيسى بعث رسولين من الحواريين إلى أهل مدينة أنطاكية، فلما قربا من المدينة رأيا شيخا يرعى غنيمات له وهو حبيب النجار، فقال الشيخ لهما : من أنتما ؟ فقالا : رسولا عيسى، ندعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن، فقال : أمعكما آية ؟ قالا : نعم نحن نشفي المريض ونبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله، فقال الشيخ : إن لي ابنا مريضا منذ سنين، قالا : فانطلق بنا نطلع على حاله، فأتى بهما إلى منزله، فمسحا ابنه، فقام في الوقت - بإذن الله - صحيحا، فانتشر الخبر في المدينة، وشفى الله - تعالى - على أيديهما كثيرا من المرضى، وكان حاكم المدينة ملك اسمه إنطيخس، وكان من ملوك الروم يعبد الأصنام، عندما عرف بخبر ما فعلاه دعاهما، فقال : من أنتما ؟ قالا : رسولا عيسى، قال : وفيم جئتما ؟ قالا : ندعوك من عبادة ما لا يسمع ولا يبصر إلى عبادة من يسمع ويبصر، فقال : ألكما إله دون آلهتنا ؟ قالا : نعم، من أوجدك وآلهتك، قال : قوما حتى أنظر في أمركما، فتبعهما الناس فأخذوهما وضربوهما في سوق المدينة، قال ابن إسحاق عن كعب ووهب : إن الملك أجمع هو وقومه على قتل الرسل فبلغ ذلك حبيب النجار، وهو على باب المدينة الأقصى، فجاء يسعى إليهم يذكرهم ويدعوهم إلى طاعة المرسلين، فذلك قوله - عز وجل : " وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قومى اتبعوا المرسلين " سورة يس الآية (20).
نشرت يوم الثلاثاء 25 رمضان 1430 هـ / 15 -9-2009
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
قول وعبر .. ما تخافشى السكات هو اللى يخوف: