الاثنين، 14 ديسمبر 2009

لحم الفقراء



هذه الرسالة كتبتها لحالة إنسانية .. تفاعلت معها فعبرت عنها بصدق .. وتفضل الأستاذ الأستاذ المحترم خيرى رمضان مدير تحرير الأهرام بنشرها فى بريد الجمعة .. ونشرت بتاريخ 11 -12 -2009 .. والحمدلله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


لحم الفقراء

أنا يا سيدى شاب تخطى العقد الثانى من عمره بسبعة أعوام، هذا بالنسبة لعمرى الحقيقى، لكن هيأتى وشكل جسدى لعجوز تخطى السبعين عاما..

من أسرة فقيرة تعيش في إحدى قرى محافظة الشرقية، مكونة من أم وولدين وبنت، كانت والدتى تخرج لسوق القرية تبيع بعض الخضراوات، ولم يكن لنا مصدر رزق إلا هي بعد انفصالها عن والدى منذ أن ولدت تقريبا، وبرغم الفقر وقِلة الرزق إلا أن تطلعنا إلى الخروج من دائرة الفقر كان حافزا لى على النجاح والتفوق، وكل أحلام أسرتى كانت أن أدخل الجامعة.


تفوقت في دراستى وحصلت على الثانوية العامة ثم التحقت بكلية الحقوق، برغم أن مجموعى كان يؤهلنى لأى كلية، لكن كان هدفى أن أصبح « وكيل نيابة ».

كانت أمى وأخى وأختى يعملون في أي شيء ليوفروا لى مصاريف الدراسة، ولاقوا الكثير من أجلى، وكان ما يصبرنى ويصبرهم على هذا العناء هو أنه سيأتى يوم وأصبح ذا شأن وأرد الجميل، تخطيت السنة الأولى بتقدير جيد جدا، وبدأ الفرح يدخل بيتنا بعد سنوات من التعب والكد، لكن كانت الأقدار تخبئ شيئا لم يكن في الحسبان، وأراد الله أن تكون حياتنا كما أراد سبحانه وتعالى لا كما حلمنا أن نكون، فذات يوم وأنا في طريقى إلى الجامعة إذ بسيارة شرطة تسير بسرعة جنونية تصطدمنى من الخلف لتتركنى كومة من اللحم تغطيها الدماء، وظللت أنزف لأكثر من ساعة، بعدها حملنى الناس إلى المستشفى بعد أن يئسوا من وصول الإسعاف.

ونجوت بإعجوبة من هذا الحادث بعدة عاهات مستديمة، كان سببها سوء التعامل مع حالتى، وكتب الله لى الحياة ربما لمصير أصعب من الموت، فقد خرجت من الحادث بكسور في جميع جسدى، لأبدأ بعدها رحلة علاج مريرة ذقت فيها وأهلى جميع ألوان العذاب والذل، حتى أصبح جسدى حقل تجارب لدكاترة الامتياز في كليات طب مصر، اتنقل من مستشفى جامعى إلى آخر باحثا عن أقل التكاليف، فليس لأمثالنا إلا هذه المستشفيات التي تفتقد لكل معانى الرحمة
والإنسانية والخوف من الله.

ما أصعب المرض يا سيدى عندما يصيب الفقراء فيزيد معاناتهم بجانب الحرمان والجوع، فقد يهون الفقر أمام الصحة، لكن أن يجتمع الفقر والمرض معا فهذا أمر لا يمكن تصوره وأدعو الله ألا يكتبها لأحد، وبعد مشوار طويل من الألم قال أحد الأطباء لوالدتى « لو عايزه ابنك يمشى تانى على رجليه.. خديه من هنا » يقصد أحد المستشفيات الجامعية الذي كنت أعالج فيه.

وبالفعل خرجت على كرسى متحرك، وذهبت بى أمى إلى أحد الأطباء المشهورين فطلب مبلغا كبيرا لإجراء عملية جراحية، بعدها أستطيع المشى.. طرقت أمى كل الأبواب ولم يغثها أحد، ولم تجد شيئا تبيعه لتعالجنى إلا كليتها..

نعم سيدى.. الفقر يجعل الإنسان يبيع لحمه لينقذ أخيه أو أبيه أو ابنه أو أمه، ما كان أمام أمى إلا أن تبيع جزءا من جسدها لتنقذ ابنها من العجز أو الموت، والغريب يا سيدى أنها وجدت من يشترى بل أكثر من مشتر، وأخذوا يزايدون.. حتى أجسادنا الهزيلة لم يرحمها أصحاب المال، ووجدوا فيها «سبوبة» يتربحون منها دون أن يسألوا أنفسهم.. لماذا الإنسان يبيع جزءا من جسده؟

وعندما عرف أخواتها «أخوالى» بهذا الأمر منعوها، ليس خوفا عليها، ولكن خوفا من العار الذي سيلحق بهم إذا فعلت ذلك، فجمعوا لها مبلغا قيمته 20% من المبلغ المطلوب للعملية.

وعندما عرفت بما فعلته أمى لأجلى شعرت بالحسرة والعجز والذل، وانتابنى حزن واكتئاب لدرجة إننى فكرت في الانتحار أكثر من مرة.. وحاولت، لكن إيمانى بالله وخوفى منه منعانى، واعتبرت عجزى هذا قدرا كتبه الله لى.. فكيف أجزع من إرادة الله!!

وحمدت الله واستغفرته، لكن كل ما كان يعذبنى ويبكينى هو حالة أمى التي لم تجف لها دمعة منذ أن أصبحت طريح الفراش، وهى ترى حلم العمر وولدها الأكبر كومة آدمية لا يتحرك فيها إلا العينان واللسان، وأخيرا اهتدت أمى إلى بيع البيت الذي نعيش فيه بعد أن أقنعتها بأن بيع كليتها حرام، وأننى لن أقبل أن أعالج بفلوسها، كان الأمر صعبا علينا لكن ما باليد حيلة.. باعت أمى البيت، وأُجرِيت لى عملية تم فيها تركيب عدة شرائح ومسامير، استطعت بعدها أن أمشى على عكازين.

مر عام وأنا طريح الفراش أتحرك بطريقة معينة، وأى خطأ يحدث تكون نتيجته كسرا جديدا أو نزيفا في أي جزء من جسدى، أثناء هذه الفترة لم أذهب للكلية، ولم أستطع حضور الامتحان فرسبت.

كنت في العشرين من عمرى والدنيا كلها تضحك لمن في مثل سنى إلا أنا، جلوسى وحدى لساعات طويلة علمنى التأمل في الأشياء وفى خلق الله وتصرفاتهم، وأن ما حدث لى ما هو إلا ابتلاء ومصيبة مكتوبة لى.

ووضعت قول الله سبحانه وتعالى: « وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون..»، وقول النبي صلى الله عليه وسلم :
( أمرهم كله لهم خير إن أصابتهم سراء شكروا، وإن أصابتهم ضراء صبروا ) أمام عينى وفى عقلى وقلبى، وتعلمت كيف يكون الصبر على المصائب مهما تكن صعوبتها، فلم أقنط أو أعترض، وكل ما أفكر فيه هو كيف أخرج أمى من الحزن الذي سكنها منذ الحادث.. كان الألم يقتلنى وأبتسم..لا أتوجع أو أشكى حتى لا أزيد من هموم أمى وأخوتى.. أليس كتم الآه يا سيدى عذاب آخر أشد من الألم نفسه؟

كانت المفاجآت مازالت تعبس بحياتنا وهى تخرج تِباعا من جعبة الأيام، فما أن خرجتُ من المستشفى حتى شعرت أمى بألم في بطنها، وبعد الكشف والتحاليل تبين أنها مصابة بالفيروس الكبدى، وتطلَّبْ علاجها شراء بعض الأدوية المكلفة التي لا نملك منها مليما واحدا، خاصة بعد أن بعنا كل ما لدينا، وليس لنا أي دخل إلا ما يقدمه أخى الأصغر، ولا يكفى شيئا.

توقفت عن الدراسة في الكلية وأخذت أبحث عن عمل، وكان من الصعب أن أجد عملا يقبلنى بعكاذى، لكن رحمة الله واسعة، عرف أحد الصالحين بقصتى فأخذنى لأعمل عنده في محل بقالة براتب شهرى خصصته كله لشراء الدواء لأمى، لن أحكى لك يا سيدى عن مدى البؤس والحرمان الذي عشناه، حتى إننى كنت اقطع الرغيف نصفين بينى وبين أخى لنأكله عشاء أو غداء، وكنا نأكل أي شيء لنوفر ثمن العلاج لأمى، وكثيرا ما نمنا ليال بدون عشاء، وأنا أسخر من المثل الذي يقول « ما حدش بيبات من غير عشا » لأ.. فيه.. وفيه أكثر مما يتخيله البشر!!

كنت راضيا بل كنت سعيدا بأننى أستطيع توفير ثمن العلاج لأمى، وذات يوم أتى لى أحد أصدقائى وأشار علىَّ أن ألتحق بمعهد الخدمة الاجتماعية لأنه لن يحتاج إلى مصاريف كثيرة، وفى الوقت نفسه أستطيع الحصول علي شهادته وأنا أعمل، سحبت أوراقى من كلية الحقوق بعد أن فقدت الأمل في الاستمرار فيها، ويعلم الله وحده كيف كانت حالتى يومها وكيف تصبح حالتى كلما تذكرت ذلك اليوم.

أنهيت الدراسة بالمعهد وحصلت على شهادته وأنا ما زلت أعمل، لكن القدر كان يخبئ شيئا آخر لتكتمل المأساة، فإذ بصندوق خشبى به بضاعة يقع فوق زراعي اليمنى فيهشمها، وآخر فوق رأسى أصابنى بعمى نصفى، لأرى الدنيا نصف رؤية، حيثُ يكسو الضباب كل ما أراه، أما زراعى فقد تم تجبيسها بطريقة خطأ أحدثت بها شبه شلل، لا أستطيع استخدامها في رفع ورقة من الأرض وتحتاج إلى عملية مكلفة لتعود إلى طبيعتها، فأصبحت بزراع مشلولة وأخرى مكسورة، بجانب الشرائح والمسامير المثبتة في جسدى وتوخزنى في كل حركة، وتدهورت حالتى الصحية نتيجة ما تجرعته من أدوية على مدى مشوار مرضى الذي استمر لأكثر من سبع سنوات وسيظل يلازمنى حتى نهاية العمر.

وأخيرا رقدت بجوار أمى وتراكمت علينا الديون، أما أخى الأصغر فيعمل باليومية ولا يكفى ما يتحصل عليه شراء ولو 10% من علاج أمى أو علاجى، أنا لا أبالى بما أنا فيه من ألم ووجع وعجز، بل لم أعد أشترى أي دواء، فقد تأقلمت على الألم ورضيت والحمدلله، وكل ما يشغلنى ويحزننى ليس ما بى من عجز وألم، لكن ما تعانيه أمى من المرض ولا أستطيع فعل شيء لها.

سيدى.. هذه حكاية شاب في السبعينيات من العمر، برغم أن تاريخ الميلاد والأوراق الرسمية تقول أن عمرى 27 عاما، لكن كيف نصدق الأوراق ونكذب الواقع، فهذا هو حالى.. شاب عجوز بفعل المرض وحوادث الدهر ـ عافاكم الله ـ استخرت الله بعد أن أشار علىَّ فاعل خير أن أرسل لكم حكايتى لتعينونى على ما أنا فيه بعمل أو وظيفة أو أي مشروع أعيش منه وأسرتى.


.. نشرت فى جريدة " الأهرام " صفحة (13) بريد الجمعة
.......... بتاريخ 11-12-2009



الخميس، 3 ديسمبر 2009

رسالة إلى فرعون مصر


لقد نُصِبْت لتسمع الشكاوى
وتُكبح جماح اللص
ولكن تأمّلْ
فإن ما تفعله
هو أنك تعاضد اللص
...........

تأمل إنك صقر لعامة القوم يعيش على أحقر الطيور
أنظر إنك حاكم يسرق
أنظر إنك إنسان مُنغمس فى إرضاء ملاذه
تأمل أيها الأحمق فإنك قد ضُرِبت
وتأمل أيها المغفل فإنك قد استُجوِبت
هل أنت لص ؟
هل يُحضر إليك بجنود لتصاحبك عند تقسيم الحقول.....

هذه الكلمات الفاصلة الملخصة لحال البلاد ليست لا سمح الله من " دماغ " العبد لله، وإلا وضعت نفسى فى مأزق " فيرانى " وأعطيت لـ " القط " فرصة قطع ذيلى ـ لسانى يعنى ـ الذى أتوقع له مصيرا مش حلو خالص ..

هذه الكلمات كانت لفلاح مصرى قديم بعث بها إلى صاحب السلطة فى مصر "رنزى بن مرو" فى منطقة تسمى وادى الملح فى الألفية الثالثة قبل الميلاد، وخلاصة القصة ـ علشان ما نطولش عليكم ـ أنه ..

كان فيه فلاح بسيط فقير عنده قطعة أرض صغيرة بيزرعها، وكل موسم حصاد يحمل على حماره المحصول ويمشى بجواره مسافرا إلى المدينة لكى يبيعه، وذات يوم وهو فى طريقه لبيع المحصول فى المدينة اعترضه " تحوت نخت " أحد كبار الموظفين فى الدولة واغتصب حماره المحمل بالبضاعة ـ يعنى سرقه أو أخذه غصبا .. آااايوه أخذه غصبا ـ أخذ يصيح فيه الفلاح رافضا ما فعله هذا الحرامى الميرى، ولكن لا جدوى من صراخه ولم يسمعه أحد.

جلس الفلاح يفكر .. ماذا يفعل ؟ وماذا يقول لأبنائه وزوجته ؟ وكيف سيعيشون فى الأيام القادمة بدون نقود أو خزين للطعام ؟ وظل الفلاح حائر البال حزين الحال .. ينظر للسماء مرة وينظر للأرض مرة ثم يجلس واضعا رأسه بين يديه يكاد يحطمها من فرط التفكير فيما هو قادم والمصير المنتظر ..

وفجأة برقت فى ذهنه فكرة فانتبه شارعا رأسه فى الهواء وعلى وجه ملامح ابتسامة خجلى .. نعم سأفعل وأخذ يبحث حوله عن شىء يكتب به شيئا فلم يجد، ما العمل ؟ سأذهب إلى الرئيس " فرعون مصر " وأحكى له ما فعله " تحوت نخت "، وذهب الرجل إلى فرعون مصر يعرض عليه الأمر، ووقف بين يديه يشكى له رجل الدولة الذى سلبه قوته، كان الرجل منفعلا غاضبا، لكنه كان فصيحا متكلما يجيد فن الحديث والإقناع، فأعجب الفرعون بفصاحته وحسن بيانه ووجد كثيرا من المتعة فى سماع خطابه، فيأمر ألا يُبَتْ فى أمره، وظل الفرعون صامتا حيال كل ما يقوله الفلاح حتى يستمر فى خطابه البليغ، بل ويأمر بتدوين هذا الخطاب على صحائف البردى حتى يُتلى عليه فيما بعد، ويأمر بإمداد الفلاح وعائلته بالزاد سرا دون إعلامه بمصدر ذلك الإمداد، وعاقب السارق ورد للفلاح أملاكه وكافأه على جرأته وعدم تنازله عن حقه .

هذه القصة سجلها التاريخ فى ذاكرته من آلاف السنين عن حقبة اتصفت بانهيار الدولة وإعادة تشكل صورة الحاكم الإله المنزه، فبعد هذا الحادث لجأت السلطة إلى الكتابات بهدف التأثير فى الرعايا خاصة الرعايا الرافضين لفساد السلطة .. وما كان موقف الفلاح من السلطة من وجهة نظر الحاكم إلا تجرأ لم يعهده من قبل، لفت انتباهه إلى أنه برغم بطش الحاكم وحكومته إلا أن هناك من يجرؤ على الخروج عليه ورفض بطشه مهما كانت العاقبة .. فما الذى يضير الإنسان بعد سلب قوته؟! وبرغم بطش الحاكم إلا أن ذلك لم يمنع الفلاح من انتقاده الحاد للسلطة.

أردت أن أستدعى هذه القصة لما لها من مغزى وعبرة لنعرف أن الحياة لا تدوم على حال مهما تكن مثالية البشر فيها، فالفساد موجود من آلاف السنين، لكن الشعوب تتصدى له وتثور عليه مهما تكن العاقبة، كل الشعوب لا ترضى البقاء لمن يسعى فيها فسادا .. كل الشعوب تستشعر الخطر وتعرف كيف تدرأه .. وكما قال الحاج حسن " كل السنين هاتمر وكل الفاسدين هايموتوا لكن هاتبقى مصر" ..
والقصة هى هى .. ظالم ومظلوم .. خير وشر .. فقراء وأغنياء .. حاكم ومحكومون .. عسكر وحرامية .. حكومة وشعب .. و .. و .. و .. و ..

السبت، 31 أكتوبر 2009

د. مصطفى محمود




هذا المقال من كتاب « أناشيد الإثم والبراءة» للدكتور مصطفى محمود .. رحمه الله
تأملوا كلماته ومعانيها وفلسفته العبقرية فى تفسير الحب والموت والأحاسيس والمشاعر التى تنتابنا ... المقال تحفة وإثراء للروح والعقل

لا يوجد وهم يبدو كأنه حقيقة مثل الحب..
و لا حقيقة نتعامل معها و كأنها الوهم مثل الموت!! فليس هناك أمر مؤكد أكثر من الموت، و مع ذلك لا نفكر أبدا بأننا سنموت، و اذا حدث و فكرنا لا يتجاوز تفكيرنا وهما عابرا عبور النسيم، والعكس في حالة الحب، فبرغم أن الحب دائما أمر يزينه الخيال و يضخمه الوهم و يجسمه التصور و تنفخ فيه الشهوات، و برغم أن الحب يشتعل و ينطفئ و يسخن و يبرد و برغم أن أحواله و تقلباته تشهد بأنه وهم كبير، إلا أننا نتعامل معه بالرهبة والتقديس والاحترام والخضوع.. و نظل على هذا الخلط والاختلاط حتى نفيق على الصدمة، فنصحو ونستعيد رشدنا لأيام أو شهور أو سنوات، ولكن لا نلبث أن نستسلم إلى إغماء جديد.


وسبب الخلط والاختلاط هو دائما خطأ في النسبة.. فنحن دائما ننسب الجمال الذي شاهدناه والحنان الذي تذوقناه إلى صاحبته، مع أنها ليست صاحبته ولا مالكته.. ولو امتلكت امرأة جمالها لدام لها.. ولكن الجمال لم يدم لأحد، لأنه منحة وإعارة من الله بأجل وميقات وهو قرض يسترده في حينه.. فصاحبه ومالكه هو الله وليس أي امرأة.


وكذلك كل ما نعشق من حنان ومودة ورأفة وحلم وكرم كلها خلع ومنح وأوصاف مستعارة من الودود الرءوف الحليم الكريم.. وهو مالكها بالأصالة.. ونحن نملكها عنه بالقرض والإعارة.
ولكن العين التي تعشق الجمال تخطئ نسبته وملكيته فتظنه لصاحبته فتعشق صاحبته وتعبد صاحبته.

وهي تظل في هذا الوهم حتى تفيق على القبح يطل من تحت المساحيق والقسوة تظهر من وراء الأهداب، فتصحو على الصدمة وتعاني وتتعذب وتندم وتعتبر وتتوب ثم تعود فتنسى وتنزلق إلى وهم جديد..

وتلك هي الغفلة المستمرة التي نعيش فيها جميعا.. نفيق منها لحظات لنعود فنغرق في سباتها من جديد، ولا يسلم من هذا البلاء إلا نبي معصوم أو ولي عارف يحفظه ربه ويسدل عليه كنفه.. فلا يرى حيثما تولى إلا وجه الله.

(فأينما تولوا فثم وجه الله)

فهو الجمال في كل جميل وهو الرأفة والحنان والكرم والحلم والمودة.. فتلك أسماؤه تتجلى في أواني الطين والخزف الشفافة التي شفها الإحساس حتى أصبحت مثل الكريستال المضيء، تماما كما يرى الفلكي نور القمر فيعرف أنه ليس نوره بل نور الشمس تجلى عن وجهه.

وهكذا لا يرى هذا العارف أينما تولى إلا وجه الله.. وهو دائم الهمس الله.. الله.. الله.. الله.. الله.. وهو ناظر دائما إلى الظاهر وليس إلى المظاهر.. ناظر إلى الله الظاهر دائما في كل شيء.. لا يطرف.. متعلق بالمعاني وليس بالأواني.
وهو لهذا لا ينقسم ولا يتشتت ولا يضيع في التلفت، وإنما هو مجذوب الفؤاد إلى الله على الدوام.


ولكن أمثال هذا الرجل قليل نادر مثل الألماس واليورانيوم، وأمثاله لا يتجاوزون
أفرادا وآحادا بين ألوف الملايين من الحشد المغمى عليه، وهي غفلة عامة غالبة لا ينجي فيها علم ولا ثقافة ولا دكتوراه ولا ماجستير، فتلك أبواب غرور تزيد من الغفلة.. فنرى العالم يضع علمه في خدمة هواه، وعقله في خدمة عاطفته، ومواهبه في خدمة شهواته، فتصبح بلواه مضاعفة وصدمته قاصمة للظهر.


ويمضي العمر في سلسلة من الغفلات والإغماءات مجموعها في الختام صفر، أو هي في الحقيقة حاصل طرح وليست حاصل جمع، فمجموعها في النهاية بالسالب وليس بالموجب، فحياة صاحبها إلى نقصان يوما بعد يوم و سنة بعد سنة.. يخرج من وهم إلى وهم، ومن خدعة إلى خدعة.. حاله مثل حال الشارب من ماء مالح، كلما ازداد شربا ازداد عطشا.. لا يحصل على سكينة ولا يبلغ اطمئنانا، وإنما هو هابط دوما من قلق إلى قلق، ومن تمزق إلى تمزق، ومن تشتت إلى تشتت، حتى تنتهي حياته بلا ثمرة، وينتهي تحصيله بلا جدوى.


وتلك هي العقلية الاستمتاعية السائدة اليوم في عالم وثني، أصنامه اللذة والغلبة والهوى.. معبود كل واحد نفسه، وكتابه رأيه، ودستوره مصلحته.

والحال في الأمم المتخلفة والنامية أسوأ مما هو في الأمم المتقدمة.. وهي أمم مجموعها أحيانا (حاصل طرح أفرادها)، وليس حاصل جمعهم، لأنهم منفرطون منقسمون متباعدون كالجزر التائهة في البحر.. يضرب بعضهم بعضا.. وعزمهم مستهلك.. وقوتهم لا شيء..
يتحدثون عن الوحدة.
ولا وحدة إلا بالواحد.
هو وحده الواحد لا إله إلا هو، الذي يخرج به كل واحد من شتات نفسه وتخرج به الأمم من تفرقها ويخرج به العالم من انقسامه.

والقضية بالدرجة الأولى قضية إيمان.
هي قضية رؤية..
كيف نرى العالم..؟
وكيف ننظر فيما حولنا..؟
وكيف نحب..؟

هل نستطيع أن نكون ذلك العارف الذي لا يرى في كل شيء إلا الواحد.. و لا يبصر إلا وجه ربه في كل محبوب.

هل يمكن أن نكون مصداق الآية:
(أينما تولوا فثم وجه الله)

وفي هذا الإطار نحب وفي هذا الإطار نكره.. فنبذل المروءة والمعروف والمودة للجميع ولا يكون لنا تعلق ولا يكون لنا حب إلا الله وبالله وفي الله.

ذلك هو الجهاد الصعب.
ولا اختيار..
ولا طريق آخر.
وكل واحد وعزمه.
وكل واحد وهمته..
وعبرة كل حياة بختامها.. فلنسارع إلى المجاهدة ولنشمر السواعد حتى لا يكون محصول حياتنا صفرا، وحتى لا يمضي بنا كل يوم إلى نقصان، وحتى لا يصبح كل يوم من أيامنا مطروحا من الذي قبله.
إنما خلق الله الغواية لامتحان القلوب و ليعرف الكبار أنفسهم وليعرف الصغار أنفسهم من البداية..

منقول من كتاب «أناشيد الإثم والبراءة» لاستأذنا الفاضل العالم المفكر الدكتور مصطفي محمود .. رحمه الله وجعل الجنة مأواه وجزاه عن علمه خير الجزاء




الأربعاء، 23 سبتمبر 2009

المدينة



أماكن فى القرآن 

المدينة المنورة

على جاد

مكان نال حبا كبيرا من النبي ـ صلّى الله عليه وسلم ـ فأحبه المسلمون محبة لله ورسوله وإتباعا للسنة المطهرة.. المدينة المنورة إليها خرج مهاجرا، وعلى أرضها بنى أول مسجد فى الإسلام، وبها مرقد خير البشر، وهى أول عاصمة إسلامية، كانت تسمى قبل الهجرة "يثرب"، وتقع وسط الجزء الغربى من المملكة العربية السعودية، تبلغ مساحتها 150 كيلومترا مربعا، وترتفع عن سطح البحر 625 مترا تقريبا.

وتبعد عن مكة المكرمة 430كم شمالا، كما تبعد عن شاطئ البحر الأحمر بنحو 150كم، وأقرب الموانى منها ميناء ينبع البحر الذى يقع فى الجهة الغربية الجنوبية منها، وتبعد عن عاصمة المملكة الرياض بنحو 980 كيلومترا، وتتميز بخصوبة أرضها ووفرة مائها وعذوبته، بالإضافة إلى إحاطة هذه الواحة بمحميات تضاريسية طبيعية تمثل في مجموعها الجبال والهضاب والأودية.

"ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه .." سورة التوبة الآية (120)

ورد لفظ "المدينة " في القرآن الكريم أربع عشرة مرة، منها أربعة مواضع قصد بها " المدينة المنورة "، مرتان في سورة التوبة الآيتان (101 و 120)، ومرتان فى سورتى الأحزاب الآية (60)، والمنافقون الآية (8)، وورد لفظ " يثرب " بتسميتها القديمة مرة واحدة، وذلك في سورة الأحزاب في قوله تعالى: " وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا .." الآية (13)، كان اسم المدينة المنورة قبل هجرة الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ إليها هو " يثرب ".

ويقال إن هذا هو اسم رجل كان أول من سكن المدينة المنورة بعد الطوفان، وهناك أكثر من رواية حول سبب التسمية، إلاَّ أن الثابت أن العرب عند ظهور الإسلام كانوا يدعونها بهذا الاسم ثم تغير إلى اسم " المدينة المنورة " بعد الهجرة النبوية المباركة، يقول ابن هشام فى كتابه "السيرة النبوية" كانت تسمى يثرب فسماها رسول الله، صلى الله عليه وسلم المدينة، وكره أن تسمى يثرب، وذلك لأن هذه التسمية التي لحقت بها إنما جاءت على عهد اليهود الذين سموها بها وهي تعني الفساد.

وذكر الطبرى، والقرطبى فى تفسيريهما لهذه الآية أنه لم يكن لأهل المدينة، ومن حولهم من الأعراب سكان البوادي، الذين تخلفوا عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غزوة تبوك، وهم من أهل الإيمان به، أن يتخلفوا في أهاليهم ولا دارهم، ولا أن يرغبوا بأنفسهم عن نفسه في صحبته في سفره والجهاد معه ومعاونته على ما يعانيه في غزوه ذلك، فيخبر سبحانه وتعالى أنه لم يكن لهم هذا، لأنهم لا يصيبهم في سفرهم إذا كانوا معه عطش ولا تعب، ولا مجاعة في إقامة دين الله ونصرته، وهدم منار الكفر، وهذه معاتبة للمؤمنين من أهل يثرب وقبائل العرب المجاورة لها، كمزينة وجهينة وأشجع وغفار وأسلم على التخلف عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غزوة تبوك.

أما عن جبالها وتضاريسها وسكانها فقد ذكر ابن القيم فى كتابه (زاد المعاد) أن أهم جبالها هو جبل أحد ويقع شمال المدينة والذي حدثت عنده معركة أحد، ويوجد بجوار الجبل قبور شهداء أحد وقبر حمزة بن عبدالمطلب عم النبي وأسد الله، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن جبل أحد يحبنا ونحبه، وهو على ترعة من ترع الجنة" رواه ابن ماجة.

وكذلك عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد جبل أُحد وأبو بكر وعمر وعثمان معه فرجف بهم، فضربه برجله وقال: (اثبت أحد، فما عليك إلا نبيٌّ، أو صدّيق، أو شهيدان)، وفي رواية: (فإنما عليك نبي، وصديق، وشهيدان) رواه البخاري، ويقع شماله جبل ثور وهو الحد الشمالي للمدينة المنورة، ويسكن المدينة قبائل الأنصار: وهم الأوس والخزرج السكان الأصليين للمدينة المنورة، بقي منهم بعض العوائل الثابت نسبهم، والسبب في قلة الأنصار اليوم يرجع إلى عدة عوامل أهمها تصديقا للحديث النبوي الشريف (إن الناس يكثرون، وتَقِلُّ الأنصار حتى يكونوا كالملح في الطعام، فمن ولي منكم أمرا يضر فيه أحدا أو ينفعه فليقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم‏)‏‏. والعامل الآخر في قلتهم بالمدينة هو مشاركتهم بالغزوات والفتوحات الإسلامية، فمنهم من استقر في الأمصار والأقطار التي توجهوا لها، ومنهم من استشهد وتوفي، وعدد العوائل الثابت نسبهم قليل، وهناك بعض المهاجرين في القرون المتأخرة لقبوا أنفسهم بالأنصار، ولكنهم ينفون نسبتهم إلى أنصار رسول ـ الله صلى الله عليه وسلم، وهناك أيضا قبيلة الأشراف ومعظمهم من بني الحسين ـ رضي الله عنه ـ وقبائل أخرى نزحت إلى المدينة بعد زوال الأسوار المحيطة بالمدينة المنورة ومن أشهرها حـــرب وجهينة، بالإضافة إلى الهجرات المتتابعة لمحبي السكنى بجوار المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ من جميع الأقطار الإسلامية.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان الناس إذا رأوا أول الثمر جاءوا به إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم، فإذا أخذه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:"اللهم بارك لنا في ثمرنا وبارك لنا في مدينتنا وبارك لنا في صاعنا وبارك لنا في مدنا، اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، وإني عبدك ونبيك، وإنه دعا لمكة، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك به لمكة ومثله معه" فى صحيح مسلم، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إنما المدينة كالكير تنفي خبثها وتنصع طيبها"، أي تميزه ويستقر فيها، فى صحيح البخارى ومسلم.


نشرت بجريدة (السياسة الكويتية) يوم الأحد 1 شوال 1430 هـ / 20 -9 -2009

الثلاثاء، 22 سبتمبر 2009

الأعراف



أماكن فى القرآن 


الأعراف
على جاد

مكان اليوم لا يتحدد بأرض أو موضع أو تضاريس مما يعرفه الإنسان ويحددها بجهات وخطوط عرض وطول .. مكان اليوم هو المآل الأخير للبشر بعد عناء طويل فى الأرض، هو غيبيات ذكرها القرآن وتحدث عنها الصحابة والتابعون والمفسرون وعلماء الدين، هو الأعراف .. قيل عنه الكثير لكن يظل سرا من أسرار الغيب.

قد يكون جبلا وقد يكون خطا أو منطقة فاصلة بين الجنة والنار، وقد يكون مكانا مرتفعا يقف عليه ناس بعينهم حددهم المولى عز وجل وخصصهم لهذا المشهد العظيم، لكن كيف سيكون حالهم ؟! ومن هم ؟ وأين سيكون مكانهم ؟ وماذا فعلوا فى الدنيا ليخصهم الله بهذا الموقف ؟ وهل هم من أصحاب الجنة أم من أصحاب النار ؟ هذا ما سنعرفه.

"وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون" سورة الأعراف الآية (46)

إذا حاولنا تخيل المشهد أو التفكير فيه لشطح بنا الخيال إلى أشياء غريبة قد تكون مفزعة ومحزنة وقد تكون مطمأنة مفرحة، وحتى لا تتملكنا الحيرة نتعرف معا على ما قاله المفسرون، حيث أفاض الطبرى فى تفسيره لهذه الآية فقال: سئل ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ عن أصحاب الأعراف من هم؟ وما الأعراف؟ فقال : أما الأعراف فهو جبل بين الجنة والنار، وإنما سمي الأعراف لأنه مشرف على الجنة والنار، وعليه أشجار وثمار وأنهار وعيون، وأما الرجال الذين يكونون عليه، فهم رجال خرجوا إلى الجهاد بغير رضا أبائهم، وأمهاتهم فقتلوا في الجهاد فمنعهم القتل في سبيل الله عن دخول النار، ومنعهم عقوق الوالدين عن دخول الجنة، فهم على الأعراف حتى يقضي الله فيه أمره.

وروى ابن جرير عن حذيفة أنه سئل عن أصحاب الأعراف فقال : هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فقعدت بهم سيئاتهم عن الجنة وخلفت بهم حسناتهم عن النار قال : فوقفوا هناك على السور حتى يقضي الله فيهم، وذكر الله سبحانه وتعالى أن بين الجنة والنار حجابا، وهو الحاجز المانع من وصول أهل النار إلى الجنة، قال ابن جرير وهو السور الذي قال الله تعالى" ... فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب " سورة الحديد آية (13)، وهو الأعراف الذي قال الله تعالى فيه " وعلى الأعراف رجال " لا خلاف فى أقوال المفسرين من أن الأعراف هو مكان بين الجنة والنار، فذكر المفسرون فى تفسير هذه الآية مجموعة أقوال وأحاديث نبوية لم تخرج عما نتحدث عنه...
نذكر منها قول ابن كثير من أن الأعراف هو حجاب بين الجنة والنار، سور له باب قال ابن جرير والأعراف : جمع عرف، وكل مرتفع من الأرض عند العرب يسمى عرفا، وإنما قيل لعرف الديك عرفا لارتفاعه، وفي رواية عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال الأعراف: تل بين الجنة والنار حبس عليه أهل الذنوب، وقال السدي إنما سمي الأعراف أعرافا لأن أصحابه يعرفون الناس.

واختلفت عبارات المفسرين في أصحاب الأعراف من هم؟ وكلها قريبة منها أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، روى ابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري وابن عباس قال : سئل رسول ـ الله صلى الله عليه وسلم ـ عن أصحاب الأعراف قال: " هم ناس قتلوا في سبيل الله بمعصية آبائهم فمنعهم من دخول الجنة معصية آبائهم ومنعهم من النار قتلهم في سبيل الله"، وقال ابن جرير عن أصحاب الأعراف: " هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فقعدت بهم سيئاتهم عن الجنة وخلفت بهم حسناتهم عن النار، قال فوقفوا هنالك على السور حتى يقضي الله فيهم ".


كل ما قيل عن الأعراف لم يذهب كثيرا عما أجمع عليه المفسرون، حيث الكل يتفق على شىء واحد وهو أنهم ناس سيدخلون الجنة برحمة ربهم، فقد ذكر ابن كثير فى تفسيره لهذه الآية عن ابن عباس قال : الأعراف هو السور الذي بين الجنة والنار، وأصحاب الأعراف بذلك المكان حتى إذا بدأ الله أن يعافيهم انطلق بهم إلى نهر يقال له نهر الحياة، حافتاه قصب الذهب، مكلل باللؤلؤ وترابه المسك، فألقوا فيه حتى تصلح ألوانهم وتبدو في نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها، حتى إذا صلحت ألوانهم أتى بهم الرحمن تبارك وتعالى فقال: " تمنوا ما شئتم " فيتمنون حتى إذا انقطعت أمنياتهم قال لهم: " لكم الذي تمنيتم ومثله سبعون ضعفا "، فيدخلون الجنة وفي نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها ويسمون" مساكين أهل الجنة "...


كما ذكر قولا عن الشعبي قال : أرسل إلي عبد الحميد بن عبد الرحمن، وعنده أبو الزناد عبد الله بن ذكوان مولى قريش، وإذا هما قد ذكرا من أصحاب الأعراف ذكرا ليس كما ذكرا، فقلت لهما : إن شئتما أنبأتكما بما ذكر حذيفة، فقالا هات ! فقلت : إن حذيفة ذكر أصحاب الأعراف فقال : هم قوم تجاوزت بهم حسناتهم النار، وقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة، فإذا نظروا إلى أهل الجنة نادوا " سلام عليكم "، وإذا صرفوا أبصارهم إلى يسارهم نظروا أهل النار قالوا ":ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين "، فبينما هم كذلك اطلع إليهم ربك تبارك وتعالى فقال : اذهبوا وادخلوا الجنة، فإني قد غفرت لكم.


نشرت بجريدة (السياسة الكويتية) يوم السبت 29 رمضان 1430 هـ / 19 -9-2009

الخميس، 17 سبتمبر 2009

جهنم



أماكن فى القرآن 

جهنم
على جاد 


مكان كلما ذكر فى القرآن الكريم دعونا الله ألا نكون من أصحابه واستجرنا ولجأنا إلى الله بالدعاء والصلاة أن ينقذنا منه .. لفظه فيه رهبة ونطقه فيه شدة والوعيد به يكفى لمن خاف واتعظ .. جهنم ما هى ؟ وأين مكانها وما صفتها ؟ ولمن أعدت وتجهزت؟ وهل هى نار أم جحيم أم مجموعة متنوعة من ألوان العذاب ؟ أسئلة كثيرة تدور فى ذهن الناس عند تذكرها..


فهى المقر لمن كفر وضل وعاش حياته فى غى، خلقها الله تعالى وجعلها مقرا لأعدائه المخالفين لأمره، وملأها من غضبه وسخطه وأودع فيها أنواعا من العذاب الذي لا يطاق، وحذر عباده من بأسها وشدة عذابها، فبين لهم السبل المنجية منها، فمن خالف وعاند وتمرد واتبع هواه فهى المأوى والمهاد والخلود، لمعصيتهم جهلا منهم بحق ربهم عليهم وجهلا منهم بحقيقة جهنم التي توعدهم الله بها، ذكرت فى القرآن الكريم (77) مرة تقريبا، وكان أول ذكر لها فى سورة البقرة وآخر ذكر لها كان فى سورة البينة.

"وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد".. سورة البقرة الآية (206)

لم أجد وصفا شافيا فى ماهية جهنم إلا بعض الأوصاف التى ذكرت فى القرآن من أحوال أصحابها وكيف يكون عذابهم فيها، وهناك أحاديث ضعيفة وموضوعة كثيرة قيلت فى وصف جهنم كان أشهرها أن جبريل أتى للنبى صلى الله عليه وسلم وأخبره فى حديث طويل عن بعض أوصافها، وعندما تحققت من روايته وجدت أغلب الأئمة وضعوه وضعفوه، وإذا حاولنا تجميع ما قيل فى القرآن عن ألوان العذاب فى جهنم لكان لدينا رصيد كافي فى ماهيتها، لكن لضيق المقام هنا سنكتفى بمعلومات بسيطة عنها، ففى تفسير هذه الآية اختلف المفسرون وأهل العلم فى تأويل من عنى بها، فذكر القرطبى والطبرى فى تفسيريهما أنه كل فاسق ومنافق...

ويعني بذلك جل ثناؤه : وإذا قيل لهذا المنافق الذي نعت نعته لنبيه - عليه الصلاة والسلام - وأخبره أنه يعجبه قوله في الحياة الدنيا : اتق الله وخفه فى إفسادك في أرض الله، وسعيك فيها بما حرم الله عليك من معاصيه، وإهلاكك حرث المسلمين ونسلهم، استكبر ودخلته عزة وحمية بما حرم الله عليه، وتمادى في غيه وضلاله، قال الله جل ثناؤه : فكفاه عقوبة من غيه وضلاله صلي نار جهنم ولبئس المهاد لصاليها، قال صلى الله عليه وسلم: " لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم فكيف بمن يكون طعامه " رواه الترمذي، والزقوم هى شجرة فى قعر جهنم يأكل أهل جهنم منها.




هنا يقسم الله سبحانه وتعالى بنفسه بعد إقامة الحجة بأنه يحشرهم من قبورهم إلى الميعاد مع الشياطين " فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا" سورة مريم الآية68، يقول القرطبى فى تفسيره لهذه الآية، أي ولنحشرن الشياطين قرناء لهم، قيل يحشر كل كافر مع شيطان في سلسلة، كما قال " احشروا الذين ظلموا وأزواجهم " سورة الصافات الآية (22)، والمعنى أنهم يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين أغووهم، فيقرنون كل كافر مع شيطان في سلسلة فإن قلت هذا إذا أريد بالإنسان الكفرة خاصة، فإن أريد الأناسي على العموم فكيف يستقيم حشرهم مع الشياطين ؟


يقول القرطبى إذا حشر جميع الناس حشرا واحدا وفيهم الكفرة مقرونين بالشياطين فقد حشروا مع الشياطين كما حشروا مع الكفرة، وهنا لا يعزل السعداء عن الأشقياء في الحشر كما عزلوا عنهم في الجزاء، ولم يفرق بينهم في المحشر وأحضروا حيث تجاثوا حول جهنم وأوردوا معهم النار ليشاهد السعداء الأحوال التي نجاهم الله منها وخلصهم، فيزدادوا لذلك غبطة وسرورا إلى سرور ويشمتوا بأعداء الله تعالى وأعدائهم، فتزداد مساءتهم وحسرتهم وما يغيظهم من سعادة أولياء الله وشماتتهم بهم، ومعنى إحضارهم جثيا أى أنهم يعتلون من المحشر إلى شاطئ جهنم على حالهم التي كانوا عليها في الموقف جثاة على ركبهم لا يمشون على أقدامهم...

وذلك أن أهل الموقف وصفوا بالجثو، قال الله تعالى: " وترى كل أمة جاثية " سورة الجاثية الآية (28) يتجاثي أهلها على الركب لما في ذلك من القلق والخوف والترقب أو لما يدهمهم من شدة الأمر التي لا يطيقون معها القيام على أرجلهم فيجثون على ركبهم جثوا، وإن فسر بالعموم فالمعنى أنهم يتجاثون عند موافاة شاطئ جهنم على أن " جثيا " حال مقدرة كما كانوا في الموقف متجاثين لأنه من توابع الوقوف للحساب، قبل التواصل إلى الثواب والعقاب، وقال الحسن والضحاك جاثية على الركب، أي لا يمكنهم أن يجلسوا جلوسا تاما.

وفى آخر آية ذكرت فيها جهنم كانت فى سورة البينة يقول سبحانه وتعالى :" إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية" سورة البينة الآية (6)، قال ابن كثير فى تفسيره لهذه الآية إن سبحانه وتعالى يخبر عن مآل الفجار من كفرة أهل الكتاب والمشركين المخالفين لكتب الله المنزلة وأنبياء الله المرسلة أنهم يوم القيامة في نار جهنم خالدين فيها أي ماكثين لا يحولون عنها ولا يزولون، فهم شر الخليقة التي برأها الله وذرأها، وذكر الطبرى أيضا أن الذين كفروا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فجحدوا نبوته، من اليهود والنصارى والمشركين جميعهم ماكثين لابثين فيها أبدا لا يخرجون منها، ولا يموتون فيها .. اللهم أجرنا منها واشملنا برحمتك وعفوك ورضاك يا أرحم الراحمين.

نشرت بجريدة (السياسة الكويتية) يوم الجمعة 28 رمضان 1430 هـ / 18-9-2009
http://www.al-seyassah.com/PDF/09/SEPT/18/33.pdf


الأربعاء، 16 سبتمبر 2009

إرم






أماكن فى القرآن

إرم

على جاد

مكان اليوم من الأماكن التى حيرت المفسرين والجغرافيين والمؤرخين وعلماء الأنساب المسلمين، حتى اكتشفت أخيرا بعثة أوروبية من وكالة ( ناسا) منطقة تحت الرمال حددها المؤرخون والأثريون بأنها بين اليمن وعمان، وهى الآن تسمى ( الشيصار)؛ وجد بها العديد من المجاري المائية الجافة مدفونة تحت رمال الحزام الصحراوي الممتد من موريتانيا غربا إلى أواسط آسيا شرقا‏....

وبعد دراسة مستفيضة أجمعوا على أنها آثار عاصمة ملك عاد التي ذكرها القرآن الكريم باسم ‏( ‏إرم‏)‏ كما جاء في سورة الفجر‏،‏ والتي قدر عمرها بالفترة من‏3000‏ ق‏.‏م‏.
‏وقد نزل بها عقاب ربها فطمرتها عاصفة رملية غير عادية‏، وعلى الفور تشكل فريق بحث علمى فى كل التخصصات كان منهم الدكتور العالم زغلول النجار من مصر، وفى عددها الصادر بتاريخ 17/2/1992 نشرت مجلة ( تايم) الأمريكية تعلن فيه عن هذا الكشف، فكتب أنه" تم اكتشاف قلعة ثمانية الأضلاع سميكة الجدران بأبراج فى زواياها مقامة على أعمدة ضخمة يصل ارتفاعها إلى 9 أمتار وقطرها إلى 3 أمتار، ربما تكون هى التى وصفها القرآن الكريم بـ" ذات العماد "، وكتبت صحف العالم عن هذا الاكتشاف، لكن قامت حرب الخليج فتم التعتيم على هذا الاكتشاف وتوقف البحث فيه لأهداف سياسية ودينية.

"ألم تر كيف فعل ربك بعاد* إرم ذات العماد* التي لم يخلق مثلها في البلاد" سورة الفجر الآيات ( 6 و7 و8 )


مدينة كانت عامرة غنية قوية شكلت قلب العالم فى زمانها فكانت الرائدة الزاهرة بعلمها وتقدمها فى مختلف العلوم، كان منها علوم الفن المعمارى حتى وصفها القرآن الكريم بـ ( ذات العماد)، حيث كانوا يبنون القصور المترفة والصروح الشاهقة، وكعادة الجبابرة والطغاة لم يشكروا نعمة الله عليهم فظلموا وطغوا فعاقبهم الله بعاصفة رملية وريح شديدة محملة بالأتربة قضت عليهم وغمرت دولتهم بالرمال فجعلت مدينتهم بكل صخبها وقصورها وهيمنتها كأن لم تكن.


يذكر الطبرى فى تفسيره لهذه الآية اختلاف أهل التأويل في معنى ( إرم) فقال بعضهم : اسم بلدة وهى الإسكندرية، وقيل هى دمشق، والصواب أن إرم إما بلدة كانت عاد تسكنها، فلذلك ردت على عاد للإتباع لها، وإما اسم قبيلة، كتميم وبكر، وما أشبه ذلك إذا أرادوا به القبيلة، وقوله :( ذات العماد) قال بعضهم معناه : ذات الطول، وذهبوا في ذلك إلى قول العرب للرجل الطويل : رجل معمد، وقالوا : كانوا طوال الأجسام، بل قيل لهم ( ذات العماد) لأنهم كانوا أهل عمد، ينتجعون الغيوث وينتقلون إلى الكلأ حيث كان، ثم يرجعون إلى منازلهم .

جاء ذكر قوم عاد في سورتين من سور القرآن الكريم، سميت إحداهما باسم نبيهم هود‏ ـ عليه السلام‏ ـ‏ وسميت الأخرى باسم موطنهم الأحقاف‏، وفي عشرات الآيات القرآنية الأخرى التي تضمها ثماني عشرة سورة من سور القرآن الكريم جاء ذكرهم أيضا.
ذكر الشيخ حسنين مخلوف في تفسيره "صفوة البيان لمعاني القرآن" أن (عاد) هو‏:‏ عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام‏، سمي أولاده باسمه، وقيل لأوائلهم وهم الذين أرسل إليهم هود عليه السلام، وعاد الأولي تسمية لهم باسم أبيهم‏،‏ و( إرم) تسمية لهم باسم جدهم‏،‏ وقيل لمن بعدهم عاد الآخرة‏،‏ و‏( ‏إرم‏)‏ بدل أو عطف بيان لـ‏(‏عاد‏)، وقيل‏:‏إن‏(‏ إرم‏)‏ قبيلة من‏(‏عاد‏)‏ وهي بيت ملكهم‏،‏ فهي بدل بعض من كل‏، و(‏ ذات العماد‏)‏ صفة لقبيلة ‏(‏ إرم‏)‏ أي ذات الأعمدة التي ترفع عليها بيوت الشعر‏،‏ إذ كانوا أهل خيام وعمد ينتجعون الغيوث ويطلبون الكلأ حيث كان‏،‏ ثم يعودون إلى منازلهم‏،‏ وقيل‏:‏ ذات الرفعة والعزة‏،(‏ لم يخلق مثلها‏..)‏ صفة أخرى لها‏،‏ أي لم يخلق في بلادهم مثلها في الأيد والشدة وعظم الأجسام‏....

وللكشف عن حقيقة هؤلاء القوم ذكر المفسرون أمثال الطبرى والسيوطى والقزوينى فى تفسيرهم لهذه الآية أنهم كانوا من‏(‏ العرب البائدة‏)،‏ وهو تعبير يضم أمما كثيرة بادت واندثرت قبل بعثة النبى‏ ـ صلي الله عليه وسلم ـ بمئات السنين‏، ذكرنا بعضهم فى حلقات ماضية.
وقال المفسرون: إن مساكن قوم عاد كانت بالأحقاف‏ـ جمع حقف، أي‏ الرمل المائل ـ‏ وهي جزء من جنوب شرقي الربع الخالي بين حضرموت جنوبا‏، ومعظم الربع الخالي شمالا،‏ وعمان شرقا‏،‏ وأن نبيهم كان سيدنا هود‏ ـ عليه السلام ـ‏ وأنه بعد هلاك الكافرين من قومه سكن نبي الله هود أرض حضرموت حتي مات ودفن فيها قرب‏(‏وادي برهوت‏)‏ إلى الشرق من مدينة (تريم)‏، أما عن‏(‏ إرم ذات العماد‏)‏ فقد قالوا إنها كانت من بناء شداد بن عاد طمرتها الرمال‏ فهي لا تعرف الآن‏،‏ وإن ثارت من حولها الأساطير‏.‏

وذكر محمد على الصابونى ـ أستاذ الشريعة والدراسات الإسلامية ـ فى تفسيره "صفوة التفاسير‏" أن هذه الآية خطاب من الله عز وجل لنبيه .. أى ألم يبلغك يا محمد ويصل إلى علمك ماذا فعل الله بعاد، وهم قوم هود؟‏( ‏إرم ذات العماد‏)‏ أي عادا الأولي أهل ( إرم) ذات البناء الرفيع‏،‏ الذين كانوا يسكنون بالأحقاف بين عمان وحضرموت، ‏(‏ التي لم يخلق مثلها في البلاد‏)‏ أي تلك القبيلة التي لم يخلق الله مثلهم في قوتهم‏‏ وشدتهم‏،‏ وضخامة أجسامهم‏.‏


ولا يصدق أحد أن الربع الخالي‏،‏ وهو من أكثر أماكن الأرض قحولة وجفافا اليوم‏، كان مليئا في يوم من الأيام بالأنهار والبحيرات والبساتين والأنعام والينابيع والقصور والعمران‏ والبشر، كما أخبرنا القرآن الكريم، وكما وصفها علماء قدامى عاصروا هذه المدينة قبل هلاكها وكانوا قد رسموا لها الخرائط وكتبوا ونقلوا عنها أوصافا دقيقة أكد صحتها الاكتشاف الحديث ـ فسبحان الله.


نشرت بجريدة (السياسة الكويتية) يوم الخميس 27 رمضان 1430 هـ / 17-9- 2009 

الأخدود




أماكن فى القرآن

الأخدود


علي جاد


مكان اليوم عاش فيه قوم آمنوا بالله فأنكروا ألوهية البشر، فكان عقابهم الموت حرقا لاتخاذهم إلها غير ملك مدينتهم، لم يعلم عنهم أحد شيئا حتى ورد ذكرهم فى القرآن الكريم، أصحاب الأخدود .. سموا بذلك لأن ملك هذه المدينة أمر بحفر شق فى الأرض وإشعال النار فيه ليلقى كل من عصاه فى هذا الأخدود..
كان هذا المكان بأحداثه البشعة فى شبه الجزيرة العربية، وأخيرا تم اكتشاف بعض آثار مدينة قديمة بالسعودية دلت على أنها مدينة الأخدود، وهى حاليا تسمى " رقمات " وتقع على مساحة 5 كيلومترات مربعة على الحزام الجنوبي من وادي منطقة نجران (جنوب السعودية)، وقد صرح صالح آل مريح مدير إدارة الآثار بمنطقة نجران بأن منطقة الأخدود الأثرية تحتاج إلى ما يقارب 30 سنة لمعرفة جميع أسرارها، وأن ما تم اكتشافه للآن لا يمثل إلا جزءا من آثارها ومعالمها، وأن العظام الهشة السوداء والرماد الكثيف شاهدة على الحريق الهائل الذى لحق بمدينة الأخدود في عام 525 من الميلاد، وللآن تروي تلك الأطلال والمباني قصة أصحاب الأخدود.

" قُتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود"سورة البروج آية (4 و 5)

أصحاب الأخدود هم قوم كانوا ضحية ملك كافر ادعى الإلوهية وهيمن على قومه حتى قال لهم ما لكم من إله غيري، فظهر فيهم فتى آمن، فصبر وثبت فآمنت معه قريته، ذكر الطبرى قصتهم فى تفسيره لهذه الآية، وكذلك وجدت تفصيلها في صحيح الإمام مسلم، فقد ذكر الإمام أنه كان فى قرية أصحاب الأخدود غلام نبيه، لم يكن قد آمن بعد، وكان يعيش في قرية ملكها كافر يدّعي الإلوهية، وكان للملك ساحر يستعين به، وعندما تقدّم العمر بالساحر، طلب من الملك أن يبعث له غلاما يعلمه السحر ليحل محله بعد موته، فاختير هذا الغلام وأُرسل للساحر، فكان الغلام يذهب للساحر ليتعلم منه السحر..

وفي طريقه كان يمر على راهب، فجلس معه مرة وأعجبه كلامه، فصار يجلس مع الراهب في كل مرة يتوجه فيها إلى الساحر، وكان الساحر يضربه إن لم يحضر، فشكى ذلك للراهب، فقال له الراهب: إذا خشيت الساحر فقل حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر..

وكان في طريقه في أحد الأيام، فإذا بحيوان عظيم يسدّ طريق الناس، فقال الغلام في نفسه، اليوم أعلم أيهما أفضل، الساحر أم الراهب، ثم أخذ حجرا وقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس، ثم رمى الحيوان فقلته، ومضى الناس في طريقهم، وتوجه الغلام للراهب وأخبره بما حدث، فقال له الراهب: يا بنى، أنت اليوم أفضل مني، وإنك ستبتلى، فإذا ابتليت فلا تدل علي.

يقول الطبرى :كان الغلام بتوفيق من الله يبرئ الأكمه والأبرص ويعالج الناس من جميع الأمراض، فسمع به أحد جلساء الملك، وكان قد فَقَدَ بصره، فجمع هدايا كثيرة وتوجه بها للغلام وقال له: أعطيك جميع هذه الهداية إن شفيتني، فأجاب الغلام: أنا لا أشفي أحدا، إنما يشفي الله تعالى، فإن آمنت بالله دعوت الله فشفاك، فآمن جليس الملك، فشفاه الله تعالى، فذهب وقعد بجوار الملك كما كان يقعد قبل أن يفقد بصره، فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟ فأجاب الجليس بثقة المؤمن: ربّي، فغضب الملك وقال: ولك ربّ غيري؟ فأجاب المؤمن دون تردد: ربّي وربّك الله، فثار الملك، وأمر بتعذيبه..

فلم يزالوا يعذّبونه حتى دلهم على الغلام، فأمر الملك بإحضار الغلام، ثم قال له مخاطبا: يا بني، لقد بلغت من السحر مبلغا عظيما، حتى أصبحت تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل، فقال الغلام: إني لا أشفي أحدا، إنما الذى يشفي هو الله، فأمر الملك بتعذيبه، فعذّبوه حتى دلهم على الراهب، فأُحضر الراهب وقيل له: ارجع عن دينك، فأبى الراهب ذلك، وجيئ بمنشار، ووضع على مفرق رأسه، ثم نشر فوقع نصفين، ثم أحضر جليس الملك، وقيل له: ارجع عن دينك، فأبى ففعل به كما فعل بالراهب، ثم جيئ بالغلام وقيل له: ارجع عن دينك فأبى الغلام، فأمر الملك بأخذ الغلام لقمة جبل، وتخييره إما أن يترك دينه أو أن يطرحوه من قمة الجبل..

فأخذ الجنود الغلام، وصعدوا به الجبل، فدعى الفتى ربه: اللهم اكفنيهم بما شئت، فاهتز الجبل وسقط الجنود، ورجع الغلام يمشي إلى الملك، فقال الملك: أين من كان معك؟ فأجاب: كفانيهم الله تعالى، فأمر الملك جنوده بحمل الغلام في سفينة، والذهاب به لوسط البحر، ثم تخييره هناك بالرجوع عن دينه أو إلقائه..

فذهبوا به فدعى الغلام الله: اللهم اكفنيهم بما شئت فانقلبت بهم السفينة وغرق من كان عليها إلا الغلام، ثم رجع إلى الملك، فسأله الملك باستغراب: أين من كان معك؟ فأجاب الغلام المتوكل على الله: كفانيهم الله تعالى، ثم قال للملك: إنك لن تستطيع قتلي حتى تفعل ما آمرك به، فقال الملك: ما هو؟ فقال الفتى المؤمن: أن تجمع الناس في مكان واحد، وتصلبني على جذع، ثم تأخذ سهما من كنانتي، وتضع السهم في القوس، وتقول: " بسم الله ربّ الغلام" ثم ارمني، فإن فعلت ذلك قتلتني.

يقول الإمام مسلم، استبشر الملك بهذا الأمر، فأمر على الفور بجمع الناس، وصلب الفتى أمامهم، ثم أخذ سهما من كنانته، ووضع السهم في القوس، وقال: باسم الله ربّ الغلام، ثم رماه فأصابه فقتله، فصرخ الناس: آمنا بربّ الغلام، فهرع أصحاب الملك إليه وقالوا: أرأيت ما كنت تخشاه! لقد وقع، لقد آمن الناس، فأمر الملك بحفر شقّ في الأرض، وإشعال النار فيها ثم أمر جنوده بتخيير الناس، فإما الرجوع عن الإيمان أو إلقائهم في النار ففعل الجنود ذلك، حتى جاء دور امرأة ومعها صبي لها، فخافت أن تُرمى في النار، فألهم الله الصبي أن يقول لها: يا أمّاه اصبري فإنك على الحق.

نشرت يوم الأربعاء 26 رمضان 1430 هـ / 16-9-2009
حدث خطأ فى موقع الجريدة على النت .. فلم أتمكن من وضع رابط الحلقة كالعادة

القرية







أماكن فى القرآن

القرية

علي جاد


كل الأماكن التى تعرضنا لها كانت شاهدة على أفعال البشر بكل تفاصيلها، حلوها ومرها .. خيرها وشرها .. كفرها وإيمانها، وكأنها كتاب سطر فيها البشر أحداث حياتهم .. 

فاليوم نحن فى أنطاكية على حدود تركيا، بصحبة آية من آيات القرآن الكريم ذكرت هذه المدينة أو القرية، فهى واحدة من أشهر المدن الست عشرة التي أنشأها في مستهل القرن الثالث عشر، أحد القادة الذين خلفوا الإسكندر المقدوني، وتقع في شمال غربي سورية على نهر العاصي قرب مصبه.. يذكر ياقوت الحموى فى كتابه " معجم البلدان " أن أنطاقية عاشت حياة زاهرة قضت عليها الأطماع والتآمر على امتلاكها، فقد احتلها الرومان سنة 64 ق.م فدمروها بعد أن عرفت ازدهارا سياسيا وتجاريا وعمرانيا كبيرا..

 وفى سنة 528 م هجرها أهلها قبل أن تدمر الزلازل ما تبقى من مبانيها وسكانها، فتحها المسلمون بقيادة عبيدة ابن الجراح سنة 16 هـ/ 637م في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، ثم انتزعها البيزنطيون سنة 966م، وظلت خاضعة لحكمهم حتى استولى عليها الصليبيون سنة 1098م، وظلت المدينة فى يد الصليبيين فى الفترة الواقعة بين القرنين الثانى والثالث عشر حتى قيام الظاهر بيبرس بتحريرها منهم سنة 1268م، وبقيت تحت حكم المماليك إلى أن سقطت بيد العثمانيين سنة 1517م، وغدت واحدة من مدن سورية بعد التحرر من الحكم العثماني وألحقت إداريا بلواء اسكندرون الذي اقتطعته تركيا من سورية سنة 1939م، وهى الآن مزار سياحى يقصدها السياح لأهميتها التاريخية والدينية.

" واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون " سورة يس الآية (13)

بداية أذكر ما اتفق عليه المفسرون والعلماء فى ماهية القرية المذكورة فى الآية الكريمة، فقد ذكر الطبرى فى تفسيره لهذه الآية وكذلك القرطبى، والإمام مسلم فى " صحيح البخارى " أن هذه القرية هي أنطاكية في قول جميع المفسرين، نسبت إلى أهل أنطبيس وهو اسم الذي بناها ثم غير الاسم لما تم تعريبه، وكان بها فرعون يقال له أنطيخس بن أنطيخس يعبد الأصنام، فأرسل الله إليه ثلاثة : وهم صادق، وصدوق، وشلوم، والخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وسلم، بأن يضرب لقومه مثلا بأصحاب القرية، وإنذار هؤلاء المشركين أن يحل بهم ما حل بكفار أهل القرية المبعوث إليهم ثلاثة رسل، قيل : رسل من الله على الابتداء، وقيل : إن عيسى بعثهم إلى أنطاكية للدعاء إلى الله .

وذكر الأندلسى فى (التفسير الكبير) أن القرية المقصودة فى الآية الكريمة هى أنطاكية، يقول الأندلسى: لا خلاف في قصة أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون الثلاثة، جمعهم في المجيء وإن اختلفوا في زمن المجيء، والظاهر من قوله تعالى "أرسلنا" أنهم أنبياء أرسلهم الله، ويدل عليه قول المرسل إليهم "ما أنتم إلا بشر مثلنا"، وهذه المحاورة لا تكون إلا مع من أرسله الله، وهذا قول ابن عباس وكعب، وقال قتادة وغيرهم إنهم من الحواريين بعثهم عيسى - عليه السلام - حين رفع وصلب الذي ألقي عليه الشبه، فافترق الحواريون في الآفاق، فقص الله قصة الذين ذهبوا إلى أنطاكية، وكان أهلها عباد أصنام، "فكذبوهما" أي كذبوا دعواهم إلى الله، وأخبرا بأنهما رسولا الله، " فكذبوهما فعززنا بثالث": أي قوينا وشددنا، فراجعتهم الرسل بأن ردوا العلم إلى الله وقنعوا بعلمه، وأعلموهم أنهم إنما عليهم البلاغ فقط، وما عليهم من هداهم وضلالهم، وفي هذا وعيد لهم، ووصف البلاغ بالمبين، وهو الواضح بالآيات الشاهدة بصحة الإرسال، كما روي في هذه القصة من المعجزات الدالة على صدق الرسل من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الميت.

جاء خبر الرسل الثلاثة بأنهم كانوا مرسلين من عيسى ـ عليه السلام ـ فذكر ابن مسعود البغوى فى "تفسير البغوى" أن عيسى بعث رسولين من الحواريين إلى أهل مدينة أنطاكية، فلما قربا من المدينة رأيا شيخا يرعى غنيمات له وهو حبيب النجار، فقال الشيخ لهما : من أنتما ؟ فقالا : رسولا عيسى، ندعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن، فقال : أمعكما آية ؟ قالا : نعم نحن نشفي المريض ونبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله، فقال الشيخ : إن لي ابنا مريضا منذ سنين، قالا : فانطلق بنا نطلع على حاله، فأتى بهما إلى منزله، فمسحا ابنه، فقام في الوقت - بإذن الله - صحيحا، فانتشر الخبر في المدينة، وشفى الله - تعالى - على أيديهما كثيرا من المرضى، وكان حاكم المدينة ملك اسمه إنطيخس، وكان من ملوك الروم يعبد الأصنام، عندما عرف بخبر ما فعلاه دعاهما، فقال : من أنتما ؟ قالا : رسولا عيسى، قال : وفيم جئتما ؟ قالا : ندعوك من عبادة ما لا يسمع ولا يبصر إلى عبادة من يسمع ويبصر، فقال : ألكما إله دون آلهتنا ؟ قالا : نعم، من أوجدك وآلهتك، قال : قوما حتى أنظر في أمركما، فتبعهما الناس فأخذوهما وضربوهما في سوق المدينة، قال ابن إسحاق عن كعب ووهب : إن الملك أجمع هو وقومه على قتل الرسل فبلغ ذلك حبيب النجار، وهو على باب المدينة الأقصى، فجاء يسعى إليهم يذكرهم ويدعوهم إلى طاعة المرسلين، فذلك قوله - عز وجل : " وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قومى اتبعوا المرسلين " سورة يس الآية (20).

نشرت يوم الثلاثاء 25 رمضان 1430 هـ / 15 -9-2009

مقام إبراهيم





مقام إبراهيم


على جاد

مكان له مكانة لدى المسلمين كان قبل الإسلام يحظى بالمكانة نفسها، حتى إنهم جعلوا منه مزارا مقدسا والآن هو أثر إسلامى حفظه الله منذ إقامة القواعد من البيت العتيق، هو الحجر الذى وقف عليه الخليل عليه الصلاة والسلام حتى بنى الكعبة، وهو حجر رخو من نوع حجر الماء، لونه بين البياض والسواد والصفرة، مربع الشكل ويبلغ طوله نحو نصف متر، ومقام إبراهيم هو الحجر الذي قام عليه نبي الله إبراهيم الخليل (عليه الصلاة والسلام) حين ارتفع بناؤه للبيت، وشق عليه تناول الحجارة، فكان يقوم عليه ويبني، وإسماعيل (عليه السلام) يناوله الحجارة، وهو أيضا الحجر الذي قام عليه للنداء والأذان بالحج في الناس، والمقام حجر ليس بصنوان لونه بين الصفرة والحمرة وهو إلى البياض أقرب، وقد غاصت قدما الخليل فى هذا الحجر، فعمق إحدى القدمين 10 سم والأخرى 9سم، وقد انمحى أثر الأصابع مع مرور الأيام .


"وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى .." سورة البقرة (آية 125)


كان المقام ملصقا بجدار الكعبة قديما، ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلي الحجر يمنة الداخل من الباب في البقعة المستقلة هناك، كما وصف ابن كثير فى تفسيره لهذه الآية، وكان الخليل عليه السلام لما فرغ من بناء البيت وضعه إلى جدار الكعبة أو أنه انتهى عنده البناء فتركه هناك، ولهذا أمر بالصلاة هناك عند الفراغ من الطواف وناسب أن يكون عند مقام إبراهيم حيث انتهى بناء الكعبة فيه، وإنما أخره عن جدار الكعبة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أحد الأئمة المهديين والخلفاء الراشدين الذين أمرنا بإتباعهم، وهو أحد الرجلين اللذين قال فيهما رسول الله صلى الله عليه وسلم " اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر "، وهو الذي نزل القرآن بوفاقه في الصلاة عنده ولهذا لم ينكر ذلك أحد من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، عن أنس بن مالك قال : قال عمر بن الخطاب :" وافقت ربي في ثلاث أو وافقني ربي في ثلاث : قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى)، وقلت يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله آية الحجاب، قال وبلغني معاتبة النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه، فدخلت عليهن فقلت إن انتهيتن أو ليبدلن الله رسوله خيرا منكن حتى أتت إحدى نسائه قالت : يا عمر أما في رسول الله ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت فأنزل الله (عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات .. ) سورة التحريم الآية ( 5 ).


أصبح الحجر بعد ذلك أداة أسهمت فى بناء الكعبة فكان لزاما الحفاظ عليه إذ لا يعد كسائر الأحجار، ذكر ابن كثير والطبرى فى تفسيريهما لهذه الآية حديثا رواه البخاري بسنده عن عمرو بن دينار قال: سمعت عمر يقول " قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت سبعا وصلى خلف المقام ركعتين"، يقول ابن كثير فهذا كله مما يدل على أن المراد بالمقام إنما هو الحجر الذي كان إبراهيم عليه السلام يقوم عليه لبناء الكعبة، ولما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل عليه السلام به ليقوم فوقه ويناوله الحجارة فيضعها بيده لرفع الجدار، وكلما كمل ناحية انتقل إلى الناحية الأخرى يطوف حول الكعبة وهو واقف عليه، كلما فرغ من جدار نقله إلى الناحية التي تليها، وهكذا حتى تم بناء جدران الكعبة، وكانت آثار قدميه ظاهرة فيه ولم يزل هذا معروف تعرفه العرب في جاهليتها، ولهذا قال : أبو طالب في قصيدته المعروفة اللامية : وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة على قدميه حافيا غير ناعل .. أما الحفرتان الموجودتان فهما ناتجتان عن غوص قدما سيدنا إبراهيم في الحجر بعد أن لينه الله له.


في صحيح البخاري روى من حديث ابن عباس (رضي الله عنهما) في قصة إبراهيم (عليه السلام) وبنائه للبيت، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "فعند ذلك رفعا إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت؛ فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة، وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه، وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجر وهما يقولان: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، قال: فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت، وهما يقولان: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم"، ذكر هذا الحديث ابن كثير والطبرى فى تفسيريهما لهذه الآية وذكرا أيضا عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" إن الحجر والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما ولولا ذلك لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب "، وفى زمن عمر بن الخطاب لما دخل السيل الحرم المكى الشريف اقتلع المقام من مكانه، ولكن عمر رضى الله عنه بمشاورة أصحابه أعاده إلى مكانه.

وفى جلسة رابطة العالم الإسلامى المنعقدة بتاريخ (25 من ذي الحجة 1384هـ) صدر قرار من الرابطة بإزالة جميع الزوائد الموجـودة حول المقام، وإبقـاء المقام في مكانه على أن يُجعل عليه صندوق من البلور السميك القوي، وفى الثامن من شهر رجب سنة 1387هجرية وضع المقام داخل غطاء زجاجى مصنوع من البلور الفاخر على قاعدة رخامية، وأحيط هذا الغطاء بحاجز حديدي، وعملت له قاعدة من الرخام نصبت حول المقام لا تزيد مساحتها على 180 في 130 سنتيمترا بارتفاع 75 سنتيمترا، واتسعت رقعة المطاف وتسنى للطائفين أن يؤدوا مناسك الطواف في راحة ويسر، وخفت وطأة الزحام كثيرا.


نشرت يوم الإثنين 24 رمضان 1430 هـ / 14 -9-2009

مصر




أماكن فى القرآن

مصر
على جاد

مكان عرف قديما وحديثا، ومنذ آلاف السنين ويعد قلب العالم، تمتع بموقع جغرافي متميز، فكان ملتقي قارات العالم القديم أفريقيا وأسيا وأوروبا، مصر .. ذكرت فى القرآن الكريم أكثر من مرة كانت أشهرها فى قصة سيدنا يوسف وموسى عليهما السلام...

وكانت على الدوام ملتقى للتفاعل الحضاري بين الشرق والغرب، وبين الشمال والجنوب، وكانت البرزخ الذي مرت منه الديانات السماوية إلي العالم، فانعكس كل ذلك على تكوين الإنسان المصري، ليتمسك بقيم التسامح والاعتدال والتفاعل مع الآخر، وقد شهدت مصر خلال الحكم الإسلامي نهضة شاملة فى العمران والفنون تمثلت فى العمارة الإسلامية بإنشاء العديد من المساجد والقلاع والحصون والأسوار، كذلك الفنون الزخرفية التى تمثلت فى أول عاصمة إسلامية فى مصر، وهى مدينة الفسطاط، وبها جامع عمرو بن العاص ويعد مقياس النيل بجزيرة الروضة أقدم أثر مصرى إسلامى والذى أنشأه الخليفة العباسى المتوكل بالله عام 245هـ.

"فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين" سورة يوسف آية (99)

شهدت أرض مصر الكثير من الأحداث القرآنية لأنبياء فروا منها وأنبياء رحلوا إليها ليلتمسوا فيها الأمان، ففى قصة سيدنا يوسف ذكر ابن كثير فى تفسيره لهذه الآية أن الله تعالى يخبر عن ورود يعقوب ـ عليه السلام ـ على يوسف، وقدومه بلاد مصر لما كان يوسف قد تقدم لإخوته أن يأتوه بأهلهم أجمعين فتحملوا عن آخرهم، وترحلوا من بلاد كنعان قاصدين بلاد مصر....

فلما أخبر يوسف ـ عليه السلام ـ باقترابهم خرج لتلقيهم، وأمر الملك أمراءه وأكابر الناس بالخروج مع يوسف لتلقي نبي الله يعقوب ـ عليه السلام ـ ويقال إن الملك خرج أيضا لتلقيه، ثم لما وصلوا باب البلد قال :" ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين " اسكنوا مصر إن شاء الله آمنين، أي مما كنتم فيه من الجهد والقحط ؟ ويقال إن الله تعالى رفع عن أهل مصر بقية السنين المجدبة ببركة قدوم يعقوب عليهم، كما رفع بقية السنين التي دعا بها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أهل مكة حين قال(اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف) ثم لما تضرعوا إليه واستشفعوا لديه وأرسلوا أبا سفيان في ذلك فدعا لهم فرفع عنهم بقية ذلك ببركة دعائه ـ عليه السلام....

لقاء تملؤه اللهفة والشوق مدفوعا بحب أبوى ظل ملتاعا حيرانا قلقا على ابنه، لقاء بين نبيين على أرض مصر، ذكر الطبرى فى تفسيره لهذه الآية وصفا لهذا اللقاء، قال : لما ألقي القميص على وجهه ارتد بصيرا، وقال : ائتوني بأهلكم أجمعين ! فحمل يعقوب وإخوة يوسف، فلما دنا أخبر يوسف أنه قد دنا منه، فخرج يتلقاه قال : وركب معه أهل مصر؛ وكانوا يعظمونه، فلما دنا أحدهما من صاحبه، وكان يعقوب يمشي وهو يتوكأ أحد أبنائه يقال له يهوذا، قال : فنظر يعقوب إلى الخيل والناس، فقال : يا يهوذا هذا فرعون مصر ؟ قال : لا، هذا ابنك، قال : فلما دنا كل واحد منهما من صاحبه، فذهب يوسف يبدؤه بالسلام، فمنع من ذلك، وكان يعقوب أحق بذلك منه وأفضل، فقال : السلام عليك يا ذاهب الأحزان عني، هكذا قال : "يا ذاهب الأحزان عني".

فرعون مصر ونبى الله موسى قصة عرفها الناس، بل يسترجع التاريخ أحداثها كل يوم وتدور أحداثها مع اختلاف الأشخاص والأدوار وطرق الاختلاف والاتفاق، يقول المولى عز وجل : "وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين" سورة يونس الآية (87)، ذكر ابن كثير فى تفسيره لهذه الآية كيف بين سبحانه وتعالى سبب إنجائه بني إسرائيل من فرعون وقومه وكيفية خلاصهم منهم، وذلك أن الله تعالى أمر موسى وأخاه هارون ـ عليهما السلام ـ أن يتبوآ أي يتخذا لقومهما بمصر بيوتا..

واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى: " واجعلوا بيوتكم قبلة "، عن ابن عباس قال أمروا أن يتخذوها مساجد، وقد كانوا خائفين فأمروا أن يصلوا في بيوتهم، فلما اشتد بهم البلاء من قبل فرعون وقومه وضيقوا عليهم أمروا بكثرة الصلاة، عن ابن عباس في تفسير هذه الآية قال : قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام لا نستطيع أن نظهر صلاتنا مع الفراعنة، فأذن الله تعالى لهم أن يصلوا في بيوتهم وأمروا أن يجعلوا بيوتهم قبل القبلة خوفا من فرعون أن يقتلهم.

وعندما بحثت عن معنى اسم مصر وجدت فى كتاب "الروض الآنف" لابن هشام رأيا قال فيه: سميت مصر بمصر بن النبيط، ويقال ابن قبط بن النبيط من ولد كوش بن كنعان، وذكر ابن هشام أن بها قرية بالصعيد تسمى "حفن" هى قرية أم إبراهيم بن النبي - صلى الله عليه وسلم، وهي التي كلم الحسن بن علي - رضي الله عنهما - معاوية أن يضع الخراج عن أهلها، ففعل معاوية ذلك حفظا لوصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهم ورعاية لحرمة الصهر، وقد تزوج النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ من مارية بنت شمعون التي أهداها إليه المقوقس، وأهدى إليه أيضا قدحا من قوارير فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشرب فيه، ويقال أن هرقل عزل المقوقس لما رأى من ميله إلى الإسلام، كما ذكر أن أم إسماعيل "هاجر" من قرية تسمى "أم العرب" من مصر.

نشرت يوم الأحد 23 رمضان 1430 هـ / 13 - 9-2009

قائمة المدونات الإلكترونية