الأربعاء، 23 سبتمبر 2009

المدينة



أماكن فى القرآن 

المدينة المنورة

على جاد

مكان نال حبا كبيرا من النبي ـ صلّى الله عليه وسلم ـ فأحبه المسلمون محبة لله ورسوله وإتباعا للسنة المطهرة.. المدينة المنورة إليها خرج مهاجرا، وعلى أرضها بنى أول مسجد فى الإسلام، وبها مرقد خير البشر، وهى أول عاصمة إسلامية، كانت تسمى قبل الهجرة "يثرب"، وتقع وسط الجزء الغربى من المملكة العربية السعودية، تبلغ مساحتها 150 كيلومترا مربعا، وترتفع عن سطح البحر 625 مترا تقريبا.

وتبعد عن مكة المكرمة 430كم شمالا، كما تبعد عن شاطئ البحر الأحمر بنحو 150كم، وأقرب الموانى منها ميناء ينبع البحر الذى يقع فى الجهة الغربية الجنوبية منها، وتبعد عن عاصمة المملكة الرياض بنحو 980 كيلومترا، وتتميز بخصوبة أرضها ووفرة مائها وعذوبته، بالإضافة إلى إحاطة هذه الواحة بمحميات تضاريسية طبيعية تمثل في مجموعها الجبال والهضاب والأودية.

"ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه .." سورة التوبة الآية (120)

ورد لفظ "المدينة " في القرآن الكريم أربع عشرة مرة، منها أربعة مواضع قصد بها " المدينة المنورة "، مرتان في سورة التوبة الآيتان (101 و 120)، ومرتان فى سورتى الأحزاب الآية (60)، والمنافقون الآية (8)، وورد لفظ " يثرب " بتسميتها القديمة مرة واحدة، وذلك في سورة الأحزاب في قوله تعالى: " وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا .." الآية (13)، كان اسم المدينة المنورة قبل هجرة الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ إليها هو " يثرب ".

ويقال إن هذا هو اسم رجل كان أول من سكن المدينة المنورة بعد الطوفان، وهناك أكثر من رواية حول سبب التسمية، إلاَّ أن الثابت أن العرب عند ظهور الإسلام كانوا يدعونها بهذا الاسم ثم تغير إلى اسم " المدينة المنورة " بعد الهجرة النبوية المباركة، يقول ابن هشام فى كتابه "السيرة النبوية" كانت تسمى يثرب فسماها رسول الله، صلى الله عليه وسلم المدينة، وكره أن تسمى يثرب، وذلك لأن هذه التسمية التي لحقت بها إنما جاءت على عهد اليهود الذين سموها بها وهي تعني الفساد.

وذكر الطبرى، والقرطبى فى تفسيريهما لهذه الآية أنه لم يكن لأهل المدينة، ومن حولهم من الأعراب سكان البوادي، الذين تخلفوا عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غزوة تبوك، وهم من أهل الإيمان به، أن يتخلفوا في أهاليهم ولا دارهم، ولا أن يرغبوا بأنفسهم عن نفسه في صحبته في سفره والجهاد معه ومعاونته على ما يعانيه في غزوه ذلك، فيخبر سبحانه وتعالى أنه لم يكن لهم هذا، لأنهم لا يصيبهم في سفرهم إذا كانوا معه عطش ولا تعب، ولا مجاعة في إقامة دين الله ونصرته، وهدم منار الكفر، وهذه معاتبة للمؤمنين من أهل يثرب وقبائل العرب المجاورة لها، كمزينة وجهينة وأشجع وغفار وأسلم على التخلف عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غزوة تبوك.

أما عن جبالها وتضاريسها وسكانها فقد ذكر ابن القيم فى كتابه (زاد المعاد) أن أهم جبالها هو جبل أحد ويقع شمال المدينة والذي حدثت عنده معركة أحد، ويوجد بجوار الجبل قبور شهداء أحد وقبر حمزة بن عبدالمطلب عم النبي وأسد الله، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن جبل أحد يحبنا ونحبه، وهو على ترعة من ترع الجنة" رواه ابن ماجة.

وكذلك عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد جبل أُحد وأبو بكر وعمر وعثمان معه فرجف بهم، فضربه برجله وقال: (اثبت أحد، فما عليك إلا نبيٌّ، أو صدّيق، أو شهيدان)، وفي رواية: (فإنما عليك نبي، وصديق، وشهيدان) رواه البخاري، ويقع شماله جبل ثور وهو الحد الشمالي للمدينة المنورة، ويسكن المدينة قبائل الأنصار: وهم الأوس والخزرج السكان الأصليين للمدينة المنورة، بقي منهم بعض العوائل الثابت نسبهم، والسبب في قلة الأنصار اليوم يرجع إلى عدة عوامل أهمها تصديقا للحديث النبوي الشريف (إن الناس يكثرون، وتَقِلُّ الأنصار حتى يكونوا كالملح في الطعام، فمن ولي منكم أمرا يضر فيه أحدا أو ينفعه فليقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم‏)‏‏. والعامل الآخر في قلتهم بالمدينة هو مشاركتهم بالغزوات والفتوحات الإسلامية، فمنهم من استقر في الأمصار والأقطار التي توجهوا لها، ومنهم من استشهد وتوفي، وعدد العوائل الثابت نسبهم قليل، وهناك بعض المهاجرين في القرون المتأخرة لقبوا أنفسهم بالأنصار، ولكنهم ينفون نسبتهم إلى أنصار رسول ـ الله صلى الله عليه وسلم، وهناك أيضا قبيلة الأشراف ومعظمهم من بني الحسين ـ رضي الله عنه ـ وقبائل أخرى نزحت إلى المدينة بعد زوال الأسوار المحيطة بالمدينة المنورة ومن أشهرها حـــرب وجهينة، بالإضافة إلى الهجرات المتتابعة لمحبي السكنى بجوار المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ من جميع الأقطار الإسلامية.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان الناس إذا رأوا أول الثمر جاءوا به إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم، فإذا أخذه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:"اللهم بارك لنا في ثمرنا وبارك لنا في مدينتنا وبارك لنا في صاعنا وبارك لنا في مدنا، اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، وإني عبدك ونبيك، وإنه دعا لمكة، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك به لمكة ومثله معه" فى صحيح مسلم، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إنما المدينة كالكير تنفي خبثها وتنصع طيبها"، أي تميزه ويستقر فيها، فى صحيح البخارى ومسلم.


نشرت بجريدة (السياسة الكويتية) يوم الأحد 1 شوال 1430 هـ / 20 -9 -2009

الثلاثاء، 22 سبتمبر 2009

الأعراف



أماكن فى القرآن 


الأعراف
على جاد

مكان اليوم لا يتحدد بأرض أو موضع أو تضاريس مما يعرفه الإنسان ويحددها بجهات وخطوط عرض وطول .. مكان اليوم هو المآل الأخير للبشر بعد عناء طويل فى الأرض، هو غيبيات ذكرها القرآن وتحدث عنها الصحابة والتابعون والمفسرون وعلماء الدين، هو الأعراف .. قيل عنه الكثير لكن يظل سرا من أسرار الغيب.

قد يكون جبلا وقد يكون خطا أو منطقة فاصلة بين الجنة والنار، وقد يكون مكانا مرتفعا يقف عليه ناس بعينهم حددهم المولى عز وجل وخصصهم لهذا المشهد العظيم، لكن كيف سيكون حالهم ؟! ومن هم ؟ وأين سيكون مكانهم ؟ وماذا فعلوا فى الدنيا ليخصهم الله بهذا الموقف ؟ وهل هم من أصحاب الجنة أم من أصحاب النار ؟ هذا ما سنعرفه.

"وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون" سورة الأعراف الآية (46)

إذا حاولنا تخيل المشهد أو التفكير فيه لشطح بنا الخيال إلى أشياء غريبة قد تكون مفزعة ومحزنة وقد تكون مطمأنة مفرحة، وحتى لا تتملكنا الحيرة نتعرف معا على ما قاله المفسرون، حيث أفاض الطبرى فى تفسيره لهذه الآية فقال: سئل ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ عن أصحاب الأعراف من هم؟ وما الأعراف؟ فقال : أما الأعراف فهو جبل بين الجنة والنار، وإنما سمي الأعراف لأنه مشرف على الجنة والنار، وعليه أشجار وثمار وأنهار وعيون، وأما الرجال الذين يكونون عليه، فهم رجال خرجوا إلى الجهاد بغير رضا أبائهم، وأمهاتهم فقتلوا في الجهاد فمنعهم القتل في سبيل الله عن دخول النار، ومنعهم عقوق الوالدين عن دخول الجنة، فهم على الأعراف حتى يقضي الله فيه أمره.

وروى ابن جرير عن حذيفة أنه سئل عن أصحاب الأعراف فقال : هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فقعدت بهم سيئاتهم عن الجنة وخلفت بهم حسناتهم عن النار قال : فوقفوا هناك على السور حتى يقضي الله فيهم، وذكر الله سبحانه وتعالى أن بين الجنة والنار حجابا، وهو الحاجز المانع من وصول أهل النار إلى الجنة، قال ابن جرير وهو السور الذي قال الله تعالى" ... فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب " سورة الحديد آية (13)، وهو الأعراف الذي قال الله تعالى فيه " وعلى الأعراف رجال " لا خلاف فى أقوال المفسرين من أن الأعراف هو مكان بين الجنة والنار، فذكر المفسرون فى تفسير هذه الآية مجموعة أقوال وأحاديث نبوية لم تخرج عما نتحدث عنه...
نذكر منها قول ابن كثير من أن الأعراف هو حجاب بين الجنة والنار، سور له باب قال ابن جرير والأعراف : جمع عرف، وكل مرتفع من الأرض عند العرب يسمى عرفا، وإنما قيل لعرف الديك عرفا لارتفاعه، وفي رواية عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال الأعراف: تل بين الجنة والنار حبس عليه أهل الذنوب، وقال السدي إنما سمي الأعراف أعرافا لأن أصحابه يعرفون الناس.

واختلفت عبارات المفسرين في أصحاب الأعراف من هم؟ وكلها قريبة منها أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، روى ابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري وابن عباس قال : سئل رسول ـ الله صلى الله عليه وسلم ـ عن أصحاب الأعراف قال: " هم ناس قتلوا في سبيل الله بمعصية آبائهم فمنعهم من دخول الجنة معصية آبائهم ومنعهم من النار قتلهم في سبيل الله"، وقال ابن جرير عن أصحاب الأعراف: " هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فقعدت بهم سيئاتهم عن الجنة وخلفت بهم حسناتهم عن النار، قال فوقفوا هنالك على السور حتى يقضي الله فيهم ".


كل ما قيل عن الأعراف لم يذهب كثيرا عما أجمع عليه المفسرون، حيث الكل يتفق على شىء واحد وهو أنهم ناس سيدخلون الجنة برحمة ربهم، فقد ذكر ابن كثير فى تفسيره لهذه الآية عن ابن عباس قال : الأعراف هو السور الذي بين الجنة والنار، وأصحاب الأعراف بذلك المكان حتى إذا بدأ الله أن يعافيهم انطلق بهم إلى نهر يقال له نهر الحياة، حافتاه قصب الذهب، مكلل باللؤلؤ وترابه المسك، فألقوا فيه حتى تصلح ألوانهم وتبدو في نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها، حتى إذا صلحت ألوانهم أتى بهم الرحمن تبارك وتعالى فقال: " تمنوا ما شئتم " فيتمنون حتى إذا انقطعت أمنياتهم قال لهم: " لكم الذي تمنيتم ومثله سبعون ضعفا "، فيدخلون الجنة وفي نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها ويسمون" مساكين أهل الجنة "...


كما ذكر قولا عن الشعبي قال : أرسل إلي عبد الحميد بن عبد الرحمن، وعنده أبو الزناد عبد الله بن ذكوان مولى قريش، وإذا هما قد ذكرا من أصحاب الأعراف ذكرا ليس كما ذكرا، فقلت لهما : إن شئتما أنبأتكما بما ذكر حذيفة، فقالا هات ! فقلت : إن حذيفة ذكر أصحاب الأعراف فقال : هم قوم تجاوزت بهم حسناتهم النار، وقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة، فإذا نظروا إلى أهل الجنة نادوا " سلام عليكم "، وإذا صرفوا أبصارهم إلى يسارهم نظروا أهل النار قالوا ":ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين "، فبينما هم كذلك اطلع إليهم ربك تبارك وتعالى فقال : اذهبوا وادخلوا الجنة، فإني قد غفرت لكم.


نشرت بجريدة (السياسة الكويتية) يوم السبت 29 رمضان 1430 هـ / 19 -9-2009

الخميس، 17 سبتمبر 2009

جهنم



أماكن فى القرآن 

جهنم
على جاد 


مكان كلما ذكر فى القرآن الكريم دعونا الله ألا نكون من أصحابه واستجرنا ولجأنا إلى الله بالدعاء والصلاة أن ينقذنا منه .. لفظه فيه رهبة ونطقه فيه شدة والوعيد به يكفى لمن خاف واتعظ .. جهنم ما هى ؟ وأين مكانها وما صفتها ؟ ولمن أعدت وتجهزت؟ وهل هى نار أم جحيم أم مجموعة متنوعة من ألوان العذاب ؟ أسئلة كثيرة تدور فى ذهن الناس عند تذكرها..


فهى المقر لمن كفر وضل وعاش حياته فى غى، خلقها الله تعالى وجعلها مقرا لأعدائه المخالفين لأمره، وملأها من غضبه وسخطه وأودع فيها أنواعا من العذاب الذي لا يطاق، وحذر عباده من بأسها وشدة عذابها، فبين لهم السبل المنجية منها، فمن خالف وعاند وتمرد واتبع هواه فهى المأوى والمهاد والخلود، لمعصيتهم جهلا منهم بحق ربهم عليهم وجهلا منهم بحقيقة جهنم التي توعدهم الله بها، ذكرت فى القرآن الكريم (77) مرة تقريبا، وكان أول ذكر لها فى سورة البقرة وآخر ذكر لها كان فى سورة البينة.

"وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد".. سورة البقرة الآية (206)

لم أجد وصفا شافيا فى ماهية جهنم إلا بعض الأوصاف التى ذكرت فى القرآن من أحوال أصحابها وكيف يكون عذابهم فيها، وهناك أحاديث ضعيفة وموضوعة كثيرة قيلت فى وصف جهنم كان أشهرها أن جبريل أتى للنبى صلى الله عليه وسلم وأخبره فى حديث طويل عن بعض أوصافها، وعندما تحققت من روايته وجدت أغلب الأئمة وضعوه وضعفوه، وإذا حاولنا تجميع ما قيل فى القرآن عن ألوان العذاب فى جهنم لكان لدينا رصيد كافي فى ماهيتها، لكن لضيق المقام هنا سنكتفى بمعلومات بسيطة عنها، ففى تفسير هذه الآية اختلف المفسرون وأهل العلم فى تأويل من عنى بها، فذكر القرطبى والطبرى فى تفسيريهما أنه كل فاسق ومنافق...

ويعني بذلك جل ثناؤه : وإذا قيل لهذا المنافق الذي نعت نعته لنبيه - عليه الصلاة والسلام - وأخبره أنه يعجبه قوله في الحياة الدنيا : اتق الله وخفه فى إفسادك في أرض الله، وسعيك فيها بما حرم الله عليك من معاصيه، وإهلاكك حرث المسلمين ونسلهم، استكبر ودخلته عزة وحمية بما حرم الله عليه، وتمادى في غيه وضلاله، قال الله جل ثناؤه : فكفاه عقوبة من غيه وضلاله صلي نار جهنم ولبئس المهاد لصاليها، قال صلى الله عليه وسلم: " لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم فكيف بمن يكون طعامه " رواه الترمذي، والزقوم هى شجرة فى قعر جهنم يأكل أهل جهنم منها.




هنا يقسم الله سبحانه وتعالى بنفسه بعد إقامة الحجة بأنه يحشرهم من قبورهم إلى الميعاد مع الشياطين " فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا" سورة مريم الآية68، يقول القرطبى فى تفسيره لهذه الآية، أي ولنحشرن الشياطين قرناء لهم، قيل يحشر كل كافر مع شيطان في سلسلة، كما قال " احشروا الذين ظلموا وأزواجهم " سورة الصافات الآية (22)، والمعنى أنهم يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين أغووهم، فيقرنون كل كافر مع شيطان في سلسلة فإن قلت هذا إذا أريد بالإنسان الكفرة خاصة، فإن أريد الأناسي على العموم فكيف يستقيم حشرهم مع الشياطين ؟


يقول القرطبى إذا حشر جميع الناس حشرا واحدا وفيهم الكفرة مقرونين بالشياطين فقد حشروا مع الشياطين كما حشروا مع الكفرة، وهنا لا يعزل السعداء عن الأشقياء في الحشر كما عزلوا عنهم في الجزاء، ولم يفرق بينهم في المحشر وأحضروا حيث تجاثوا حول جهنم وأوردوا معهم النار ليشاهد السعداء الأحوال التي نجاهم الله منها وخلصهم، فيزدادوا لذلك غبطة وسرورا إلى سرور ويشمتوا بأعداء الله تعالى وأعدائهم، فتزداد مساءتهم وحسرتهم وما يغيظهم من سعادة أولياء الله وشماتتهم بهم، ومعنى إحضارهم جثيا أى أنهم يعتلون من المحشر إلى شاطئ جهنم على حالهم التي كانوا عليها في الموقف جثاة على ركبهم لا يمشون على أقدامهم...

وذلك أن أهل الموقف وصفوا بالجثو، قال الله تعالى: " وترى كل أمة جاثية " سورة الجاثية الآية (28) يتجاثي أهلها على الركب لما في ذلك من القلق والخوف والترقب أو لما يدهمهم من شدة الأمر التي لا يطيقون معها القيام على أرجلهم فيجثون على ركبهم جثوا، وإن فسر بالعموم فالمعنى أنهم يتجاثون عند موافاة شاطئ جهنم على أن " جثيا " حال مقدرة كما كانوا في الموقف متجاثين لأنه من توابع الوقوف للحساب، قبل التواصل إلى الثواب والعقاب، وقال الحسن والضحاك جاثية على الركب، أي لا يمكنهم أن يجلسوا جلوسا تاما.

وفى آخر آية ذكرت فيها جهنم كانت فى سورة البينة يقول سبحانه وتعالى :" إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية" سورة البينة الآية (6)، قال ابن كثير فى تفسيره لهذه الآية إن سبحانه وتعالى يخبر عن مآل الفجار من كفرة أهل الكتاب والمشركين المخالفين لكتب الله المنزلة وأنبياء الله المرسلة أنهم يوم القيامة في نار جهنم خالدين فيها أي ماكثين لا يحولون عنها ولا يزولون، فهم شر الخليقة التي برأها الله وذرأها، وذكر الطبرى أيضا أن الذين كفروا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فجحدوا نبوته، من اليهود والنصارى والمشركين جميعهم ماكثين لابثين فيها أبدا لا يخرجون منها، ولا يموتون فيها .. اللهم أجرنا منها واشملنا برحمتك وعفوك ورضاك يا أرحم الراحمين.

نشرت بجريدة (السياسة الكويتية) يوم الجمعة 28 رمضان 1430 هـ / 18-9-2009
http://www.al-seyassah.com/PDF/09/SEPT/18/33.pdf


الأربعاء، 16 سبتمبر 2009

إرم






أماكن فى القرآن

إرم

على جاد

مكان اليوم من الأماكن التى حيرت المفسرين والجغرافيين والمؤرخين وعلماء الأنساب المسلمين، حتى اكتشفت أخيرا بعثة أوروبية من وكالة ( ناسا) منطقة تحت الرمال حددها المؤرخون والأثريون بأنها بين اليمن وعمان، وهى الآن تسمى ( الشيصار)؛ وجد بها العديد من المجاري المائية الجافة مدفونة تحت رمال الحزام الصحراوي الممتد من موريتانيا غربا إلى أواسط آسيا شرقا‏....

وبعد دراسة مستفيضة أجمعوا على أنها آثار عاصمة ملك عاد التي ذكرها القرآن الكريم باسم ‏( ‏إرم‏)‏ كما جاء في سورة الفجر‏،‏ والتي قدر عمرها بالفترة من‏3000‏ ق‏.‏م‏.
‏وقد نزل بها عقاب ربها فطمرتها عاصفة رملية غير عادية‏، وعلى الفور تشكل فريق بحث علمى فى كل التخصصات كان منهم الدكتور العالم زغلول النجار من مصر، وفى عددها الصادر بتاريخ 17/2/1992 نشرت مجلة ( تايم) الأمريكية تعلن فيه عن هذا الكشف، فكتب أنه" تم اكتشاف قلعة ثمانية الأضلاع سميكة الجدران بأبراج فى زواياها مقامة على أعمدة ضخمة يصل ارتفاعها إلى 9 أمتار وقطرها إلى 3 أمتار، ربما تكون هى التى وصفها القرآن الكريم بـ" ذات العماد "، وكتبت صحف العالم عن هذا الاكتشاف، لكن قامت حرب الخليج فتم التعتيم على هذا الاكتشاف وتوقف البحث فيه لأهداف سياسية ودينية.

"ألم تر كيف فعل ربك بعاد* إرم ذات العماد* التي لم يخلق مثلها في البلاد" سورة الفجر الآيات ( 6 و7 و8 )


مدينة كانت عامرة غنية قوية شكلت قلب العالم فى زمانها فكانت الرائدة الزاهرة بعلمها وتقدمها فى مختلف العلوم، كان منها علوم الفن المعمارى حتى وصفها القرآن الكريم بـ ( ذات العماد)، حيث كانوا يبنون القصور المترفة والصروح الشاهقة، وكعادة الجبابرة والطغاة لم يشكروا نعمة الله عليهم فظلموا وطغوا فعاقبهم الله بعاصفة رملية وريح شديدة محملة بالأتربة قضت عليهم وغمرت دولتهم بالرمال فجعلت مدينتهم بكل صخبها وقصورها وهيمنتها كأن لم تكن.


يذكر الطبرى فى تفسيره لهذه الآية اختلاف أهل التأويل في معنى ( إرم) فقال بعضهم : اسم بلدة وهى الإسكندرية، وقيل هى دمشق، والصواب أن إرم إما بلدة كانت عاد تسكنها، فلذلك ردت على عاد للإتباع لها، وإما اسم قبيلة، كتميم وبكر، وما أشبه ذلك إذا أرادوا به القبيلة، وقوله :( ذات العماد) قال بعضهم معناه : ذات الطول، وذهبوا في ذلك إلى قول العرب للرجل الطويل : رجل معمد، وقالوا : كانوا طوال الأجسام، بل قيل لهم ( ذات العماد) لأنهم كانوا أهل عمد، ينتجعون الغيوث وينتقلون إلى الكلأ حيث كان، ثم يرجعون إلى منازلهم .

جاء ذكر قوم عاد في سورتين من سور القرآن الكريم، سميت إحداهما باسم نبيهم هود‏ ـ عليه السلام‏ ـ‏ وسميت الأخرى باسم موطنهم الأحقاف‏، وفي عشرات الآيات القرآنية الأخرى التي تضمها ثماني عشرة سورة من سور القرآن الكريم جاء ذكرهم أيضا.
ذكر الشيخ حسنين مخلوف في تفسيره "صفوة البيان لمعاني القرآن" أن (عاد) هو‏:‏ عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام‏، سمي أولاده باسمه، وقيل لأوائلهم وهم الذين أرسل إليهم هود عليه السلام، وعاد الأولي تسمية لهم باسم أبيهم‏،‏ و( إرم) تسمية لهم باسم جدهم‏،‏ وقيل لمن بعدهم عاد الآخرة‏،‏ و‏( ‏إرم‏)‏ بدل أو عطف بيان لـ‏(‏عاد‏)، وقيل‏:‏إن‏(‏ إرم‏)‏ قبيلة من‏(‏عاد‏)‏ وهي بيت ملكهم‏،‏ فهي بدل بعض من كل‏، و(‏ ذات العماد‏)‏ صفة لقبيلة ‏(‏ إرم‏)‏ أي ذات الأعمدة التي ترفع عليها بيوت الشعر‏،‏ إذ كانوا أهل خيام وعمد ينتجعون الغيوث ويطلبون الكلأ حيث كان‏،‏ ثم يعودون إلى منازلهم‏،‏ وقيل‏:‏ ذات الرفعة والعزة‏،(‏ لم يخلق مثلها‏..)‏ صفة أخرى لها‏،‏ أي لم يخلق في بلادهم مثلها في الأيد والشدة وعظم الأجسام‏....

وللكشف عن حقيقة هؤلاء القوم ذكر المفسرون أمثال الطبرى والسيوطى والقزوينى فى تفسيرهم لهذه الآية أنهم كانوا من‏(‏ العرب البائدة‏)،‏ وهو تعبير يضم أمما كثيرة بادت واندثرت قبل بعثة النبى‏ ـ صلي الله عليه وسلم ـ بمئات السنين‏، ذكرنا بعضهم فى حلقات ماضية.
وقال المفسرون: إن مساكن قوم عاد كانت بالأحقاف‏ـ جمع حقف، أي‏ الرمل المائل ـ‏ وهي جزء من جنوب شرقي الربع الخالي بين حضرموت جنوبا‏، ومعظم الربع الخالي شمالا،‏ وعمان شرقا‏،‏ وأن نبيهم كان سيدنا هود‏ ـ عليه السلام ـ‏ وأنه بعد هلاك الكافرين من قومه سكن نبي الله هود أرض حضرموت حتي مات ودفن فيها قرب‏(‏وادي برهوت‏)‏ إلى الشرق من مدينة (تريم)‏، أما عن‏(‏ إرم ذات العماد‏)‏ فقد قالوا إنها كانت من بناء شداد بن عاد طمرتها الرمال‏ فهي لا تعرف الآن‏،‏ وإن ثارت من حولها الأساطير‏.‏

وذكر محمد على الصابونى ـ أستاذ الشريعة والدراسات الإسلامية ـ فى تفسيره "صفوة التفاسير‏" أن هذه الآية خطاب من الله عز وجل لنبيه .. أى ألم يبلغك يا محمد ويصل إلى علمك ماذا فعل الله بعاد، وهم قوم هود؟‏( ‏إرم ذات العماد‏)‏ أي عادا الأولي أهل ( إرم) ذات البناء الرفيع‏،‏ الذين كانوا يسكنون بالأحقاف بين عمان وحضرموت، ‏(‏ التي لم يخلق مثلها في البلاد‏)‏ أي تلك القبيلة التي لم يخلق الله مثلهم في قوتهم‏‏ وشدتهم‏،‏ وضخامة أجسامهم‏.‏


ولا يصدق أحد أن الربع الخالي‏،‏ وهو من أكثر أماكن الأرض قحولة وجفافا اليوم‏، كان مليئا في يوم من الأيام بالأنهار والبحيرات والبساتين والأنعام والينابيع والقصور والعمران‏ والبشر، كما أخبرنا القرآن الكريم، وكما وصفها علماء قدامى عاصروا هذه المدينة قبل هلاكها وكانوا قد رسموا لها الخرائط وكتبوا ونقلوا عنها أوصافا دقيقة أكد صحتها الاكتشاف الحديث ـ فسبحان الله.


نشرت بجريدة (السياسة الكويتية) يوم الخميس 27 رمضان 1430 هـ / 17-9- 2009 

الأخدود




أماكن فى القرآن

الأخدود


علي جاد


مكان اليوم عاش فيه قوم آمنوا بالله فأنكروا ألوهية البشر، فكان عقابهم الموت حرقا لاتخاذهم إلها غير ملك مدينتهم، لم يعلم عنهم أحد شيئا حتى ورد ذكرهم فى القرآن الكريم، أصحاب الأخدود .. سموا بذلك لأن ملك هذه المدينة أمر بحفر شق فى الأرض وإشعال النار فيه ليلقى كل من عصاه فى هذا الأخدود..
كان هذا المكان بأحداثه البشعة فى شبه الجزيرة العربية، وأخيرا تم اكتشاف بعض آثار مدينة قديمة بالسعودية دلت على أنها مدينة الأخدود، وهى حاليا تسمى " رقمات " وتقع على مساحة 5 كيلومترات مربعة على الحزام الجنوبي من وادي منطقة نجران (جنوب السعودية)، وقد صرح صالح آل مريح مدير إدارة الآثار بمنطقة نجران بأن منطقة الأخدود الأثرية تحتاج إلى ما يقارب 30 سنة لمعرفة جميع أسرارها، وأن ما تم اكتشافه للآن لا يمثل إلا جزءا من آثارها ومعالمها، وأن العظام الهشة السوداء والرماد الكثيف شاهدة على الحريق الهائل الذى لحق بمدينة الأخدود في عام 525 من الميلاد، وللآن تروي تلك الأطلال والمباني قصة أصحاب الأخدود.

" قُتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود"سورة البروج آية (4 و 5)

أصحاب الأخدود هم قوم كانوا ضحية ملك كافر ادعى الإلوهية وهيمن على قومه حتى قال لهم ما لكم من إله غيري، فظهر فيهم فتى آمن، فصبر وثبت فآمنت معه قريته، ذكر الطبرى قصتهم فى تفسيره لهذه الآية، وكذلك وجدت تفصيلها في صحيح الإمام مسلم، فقد ذكر الإمام أنه كان فى قرية أصحاب الأخدود غلام نبيه، لم يكن قد آمن بعد، وكان يعيش في قرية ملكها كافر يدّعي الإلوهية، وكان للملك ساحر يستعين به، وعندما تقدّم العمر بالساحر، طلب من الملك أن يبعث له غلاما يعلمه السحر ليحل محله بعد موته، فاختير هذا الغلام وأُرسل للساحر، فكان الغلام يذهب للساحر ليتعلم منه السحر..

وفي طريقه كان يمر على راهب، فجلس معه مرة وأعجبه كلامه، فصار يجلس مع الراهب في كل مرة يتوجه فيها إلى الساحر، وكان الساحر يضربه إن لم يحضر، فشكى ذلك للراهب، فقال له الراهب: إذا خشيت الساحر فقل حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر..

وكان في طريقه في أحد الأيام، فإذا بحيوان عظيم يسدّ طريق الناس، فقال الغلام في نفسه، اليوم أعلم أيهما أفضل، الساحر أم الراهب، ثم أخذ حجرا وقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس، ثم رمى الحيوان فقلته، ومضى الناس في طريقهم، وتوجه الغلام للراهب وأخبره بما حدث، فقال له الراهب: يا بنى، أنت اليوم أفضل مني، وإنك ستبتلى، فإذا ابتليت فلا تدل علي.

يقول الطبرى :كان الغلام بتوفيق من الله يبرئ الأكمه والأبرص ويعالج الناس من جميع الأمراض، فسمع به أحد جلساء الملك، وكان قد فَقَدَ بصره، فجمع هدايا كثيرة وتوجه بها للغلام وقال له: أعطيك جميع هذه الهداية إن شفيتني، فأجاب الغلام: أنا لا أشفي أحدا، إنما يشفي الله تعالى، فإن آمنت بالله دعوت الله فشفاك، فآمن جليس الملك، فشفاه الله تعالى، فذهب وقعد بجوار الملك كما كان يقعد قبل أن يفقد بصره، فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟ فأجاب الجليس بثقة المؤمن: ربّي، فغضب الملك وقال: ولك ربّ غيري؟ فأجاب المؤمن دون تردد: ربّي وربّك الله، فثار الملك، وأمر بتعذيبه..

فلم يزالوا يعذّبونه حتى دلهم على الغلام، فأمر الملك بإحضار الغلام، ثم قال له مخاطبا: يا بني، لقد بلغت من السحر مبلغا عظيما، حتى أصبحت تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل، فقال الغلام: إني لا أشفي أحدا، إنما الذى يشفي هو الله، فأمر الملك بتعذيبه، فعذّبوه حتى دلهم على الراهب، فأُحضر الراهب وقيل له: ارجع عن دينك، فأبى الراهب ذلك، وجيئ بمنشار، ووضع على مفرق رأسه، ثم نشر فوقع نصفين، ثم أحضر جليس الملك، وقيل له: ارجع عن دينك، فأبى ففعل به كما فعل بالراهب، ثم جيئ بالغلام وقيل له: ارجع عن دينك فأبى الغلام، فأمر الملك بأخذ الغلام لقمة جبل، وتخييره إما أن يترك دينه أو أن يطرحوه من قمة الجبل..

فأخذ الجنود الغلام، وصعدوا به الجبل، فدعى الفتى ربه: اللهم اكفنيهم بما شئت، فاهتز الجبل وسقط الجنود، ورجع الغلام يمشي إلى الملك، فقال الملك: أين من كان معك؟ فأجاب: كفانيهم الله تعالى، فأمر الملك جنوده بحمل الغلام في سفينة، والذهاب به لوسط البحر، ثم تخييره هناك بالرجوع عن دينه أو إلقائه..

فذهبوا به فدعى الغلام الله: اللهم اكفنيهم بما شئت فانقلبت بهم السفينة وغرق من كان عليها إلا الغلام، ثم رجع إلى الملك، فسأله الملك باستغراب: أين من كان معك؟ فأجاب الغلام المتوكل على الله: كفانيهم الله تعالى، ثم قال للملك: إنك لن تستطيع قتلي حتى تفعل ما آمرك به، فقال الملك: ما هو؟ فقال الفتى المؤمن: أن تجمع الناس في مكان واحد، وتصلبني على جذع، ثم تأخذ سهما من كنانتي، وتضع السهم في القوس، وتقول: " بسم الله ربّ الغلام" ثم ارمني، فإن فعلت ذلك قتلتني.

يقول الإمام مسلم، استبشر الملك بهذا الأمر، فأمر على الفور بجمع الناس، وصلب الفتى أمامهم، ثم أخذ سهما من كنانته، ووضع السهم في القوس، وقال: باسم الله ربّ الغلام، ثم رماه فأصابه فقتله، فصرخ الناس: آمنا بربّ الغلام، فهرع أصحاب الملك إليه وقالوا: أرأيت ما كنت تخشاه! لقد وقع، لقد آمن الناس، فأمر الملك بحفر شقّ في الأرض، وإشعال النار فيها ثم أمر جنوده بتخيير الناس، فإما الرجوع عن الإيمان أو إلقائهم في النار ففعل الجنود ذلك، حتى جاء دور امرأة ومعها صبي لها، فخافت أن تُرمى في النار، فألهم الله الصبي أن يقول لها: يا أمّاه اصبري فإنك على الحق.

نشرت يوم الأربعاء 26 رمضان 1430 هـ / 16-9-2009
حدث خطأ فى موقع الجريدة على النت .. فلم أتمكن من وضع رابط الحلقة كالعادة

القرية







أماكن فى القرآن

القرية

علي جاد


كل الأماكن التى تعرضنا لها كانت شاهدة على أفعال البشر بكل تفاصيلها، حلوها ومرها .. خيرها وشرها .. كفرها وإيمانها، وكأنها كتاب سطر فيها البشر أحداث حياتهم .. 

فاليوم نحن فى أنطاكية على حدود تركيا، بصحبة آية من آيات القرآن الكريم ذكرت هذه المدينة أو القرية، فهى واحدة من أشهر المدن الست عشرة التي أنشأها في مستهل القرن الثالث عشر، أحد القادة الذين خلفوا الإسكندر المقدوني، وتقع في شمال غربي سورية على نهر العاصي قرب مصبه.. يذكر ياقوت الحموى فى كتابه " معجم البلدان " أن أنطاقية عاشت حياة زاهرة قضت عليها الأطماع والتآمر على امتلاكها، فقد احتلها الرومان سنة 64 ق.م فدمروها بعد أن عرفت ازدهارا سياسيا وتجاريا وعمرانيا كبيرا..

 وفى سنة 528 م هجرها أهلها قبل أن تدمر الزلازل ما تبقى من مبانيها وسكانها، فتحها المسلمون بقيادة عبيدة ابن الجراح سنة 16 هـ/ 637م في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، ثم انتزعها البيزنطيون سنة 966م، وظلت خاضعة لحكمهم حتى استولى عليها الصليبيون سنة 1098م، وظلت المدينة فى يد الصليبيين فى الفترة الواقعة بين القرنين الثانى والثالث عشر حتى قيام الظاهر بيبرس بتحريرها منهم سنة 1268م، وبقيت تحت حكم المماليك إلى أن سقطت بيد العثمانيين سنة 1517م، وغدت واحدة من مدن سورية بعد التحرر من الحكم العثماني وألحقت إداريا بلواء اسكندرون الذي اقتطعته تركيا من سورية سنة 1939م، وهى الآن مزار سياحى يقصدها السياح لأهميتها التاريخية والدينية.

" واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون " سورة يس الآية (13)

بداية أذكر ما اتفق عليه المفسرون والعلماء فى ماهية القرية المذكورة فى الآية الكريمة، فقد ذكر الطبرى فى تفسيره لهذه الآية وكذلك القرطبى، والإمام مسلم فى " صحيح البخارى " أن هذه القرية هي أنطاكية في قول جميع المفسرين، نسبت إلى أهل أنطبيس وهو اسم الذي بناها ثم غير الاسم لما تم تعريبه، وكان بها فرعون يقال له أنطيخس بن أنطيخس يعبد الأصنام، فأرسل الله إليه ثلاثة : وهم صادق، وصدوق، وشلوم، والخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وسلم، بأن يضرب لقومه مثلا بأصحاب القرية، وإنذار هؤلاء المشركين أن يحل بهم ما حل بكفار أهل القرية المبعوث إليهم ثلاثة رسل، قيل : رسل من الله على الابتداء، وقيل : إن عيسى بعثهم إلى أنطاكية للدعاء إلى الله .

وذكر الأندلسى فى (التفسير الكبير) أن القرية المقصودة فى الآية الكريمة هى أنطاكية، يقول الأندلسى: لا خلاف في قصة أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون الثلاثة، جمعهم في المجيء وإن اختلفوا في زمن المجيء، والظاهر من قوله تعالى "أرسلنا" أنهم أنبياء أرسلهم الله، ويدل عليه قول المرسل إليهم "ما أنتم إلا بشر مثلنا"، وهذه المحاورة لا تكون إلا مع من أرسله الله، وهذا قول ابن عباس وكعب، وقال قتادة وغيرهم إنهم من الحواريين بعثهم عيسى - عليه السلام - حين رفع وصلب الذي ألقي عليه الشبه، فافترق الحواريون في الآفاق، فقص الله قصة الذين ذهبوا إلى أنطاكية، وكان أهلها عباد أصنام، "فكذبوهما" أي كذبوا دعواهم إلى الله، وأخبرا بأنهما رسولا الله، " فكذبوهما فعززنا بثالث": أي قوينا وشددنا، فراجعتهم الرسل بأن ردوا العلم إلى الله وقنعوا بعلمه، وأعلموهم أنهم إنما عليهم البلاغ فقط، وما عليهم من هداهم وضلالهم، وفي هذا وعيد لهم، ووصف البلاغ بالمبين، وهو الواضح بالآيات الشاهدة بصحة الإرسال، كما روي في هذه القصة من المعجزات الدالة على صدق الرسل من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الميت.

جاء خبر الرسل الثلاثة بأنهم كانوا مرسلين من عيسى ـ عليه السلام ـ فذكر ابن مسعود البغوى فى "تفسير البغوى" أن عيسى بعث رسولين من الحواريين إلى أهل مدينة أنطاكية، فلما قربا من المدينة رأيا شيخا يرعى غنيمات له وهو حبيب النجار، فقال الشيخ لهما : من أنتما ؟ فقالا : رسولا عيسى، ندعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن، فقال : أمعكما آية ؟ قالا : نعم نحن نشفي المريض ونبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله، فقال الشيخ : إن لي ابنا مريضا منذ سنين، قالا : فانطلق بنا نطلع على حاله، فأتى بهما إلى منزله، فمسحا ابنه، فقام في الوقت - بإذن الله - صحيحا، فانتشر الخبر في المدينة، وشفى الله - تعالى - على أيديهما كثيرا من المرضى، وكان حاكم المدينة ملك اسمه إنطيخس، وكان من ملوك الروم يعبد الأصنام، عندما عرف بخبر ما فعلاه دعاهما، فقال : من أنتما ؟ قالا : رسولا عيسى، قال : وفيم جئتما ؟ قالا : ندعوك من عبادة ما لا يسمع ولا يبصر إلى عبادة من يسمع ويبصر، فقال : ألكما إله دون آلهتنا ؟ قالا : نعم، من أوجدك وآلهتك، قال : قوما حتى أنظر في أمركما، فتبعهما الناس فأخذوهما وضربوهما في سوق المدينة، قال ابن إسحاق عن كعب ووهب : إن الملك أجمع هو وقومه على قتل الرسل فبلغ ذلك حبيب النجار، وهو على باب المدينة الأقصى، فجاء يسعى إليهم يذكرهم ويدعوهم إلى طاعة المرسلين، فذلك قوله - عز وجل : " وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قومى اتبعوا المرسلين " سورة يس الآية (20).

نشرت يوم الثلاثاء 25 رمضان 1430 هـ / 15 -9-2009

مقام إبراهيم





مقام إبراهيم


على جاد

مكان له مكانة لدى المسلمين كان قبل الإسلام يحظى بالمكانة نفسها، حتى إنهم جعلوا منه مزارا مقدسا والآن هو أثر إسلامى حفظه الله منذ إقامة القواعد من البيت العتيق، هو الحجر الذى وقف عليه الخليل عليه الصلاة والسلام حتى بنى الكعبة، وهو حجر رخو من نوع حجر الماء، لونه بين البياض والسواد والصفرة، مربع الشكل ويبلغ طوله نحو نصف متر، ومقام إبراهيم هو الحجر الذي قام عليه نبي الله إبراهيم الخليل (عليه الصلاة والسلام) حين ارتفع بناؤه للبيت، وشق عليه تناول الحجارة، فكان يقوم عليه ويبني، وإسماعيل (عليه السلام) يناوله الحجارة، وهو أيضا الحجر الذي قام عليه للنداء والأذان بالحج في الناس، والمقام حجر ليس بصنوان لونه بين الصفرة والحمرة وهو إلى البياض أقرب، وقد غاصت قدما الخليل فى هذا الحجر، فعمق إحدى القدمين 10 سم والأخرى 9سم، وقد انمحى أثر الأصابع مع مرور الأيام .


"وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى .." سورة البقرة (آية 125)


كان المقام ملصقا بجدار الكعبة قديما، ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلي الحجر يمنة الداخل من الباب في البقعة المستقلة هناك، كما وصف ابن كثير فى تفسيره لهذه الآية، وكان الخليل عليه السلام لما فرغ من بناء البيت وضعه إلى جدار الكعبة أو أنه انتهى عنده البناء فتركه هناك، ولهذا أمر بالصلاة هناك عند الفراغ من الطواف وناسب أن يكون عند مقام إبراهيم حيث انتهى بناء الكعبة فيه، وإنما أخره عن جدار الكعبة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أحد الأئمة المهديين والخلفاء الراشدين الذين أمرنا بإتباعهم، وهو أحد الرجلين اللذين قال فيهما رسول الله صلى الله عليه وسلم " اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر "، وهو الذي نزل القرآن بوفاقه في الصلاة عنده ولهذا لم ينكر ذلك أحد من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، عن أنس بن مالك قال : قال عمر بن الخطاب :" وافقت ربي في ثلاث أو وافقني ربي في ثلاث : قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى)، وقلت يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله آية الحجاب، قال وبلغني معاتبة النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه، فدخلت عليهن فقلت إن انتهيتن أو ليبدلن الله رسوله خيرا منكن حتى أتت إحدى نسائه قالت : يا عمر أما في رسول الله ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت فأنزل الله (عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات .. ) سورة التحريم الآية ( 5 ).


أصبح الحجر بعد ذلك أداة أسهمت فى بناء الكعبة فكان لزاما الحفاظ عليه إذ لا يعد كسائر الأحجار، ذكر ابن كثير والطبرى فى تفسيريهما لهذه الآية حديثا رواه البخاري بسنده عن عمرو بن دينار قال: سمعت عمر يقول " قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت سبعا وصلى خلف المقام ركعتين"، يقول ابن كثير فهذا كله مما يدل على أن المراد بالمقام إنما هو الحجر الذي كان إبراهيم عليه السلام يقوم عليه لبناء الكعبة، ولما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل عليه السلام به ليقوم فوقه ويناوله الحجارة فيضعها بيده لرفع الجدار، وكلما كمل ناحية انتقل إلى الناحية الأخرى يطوف حول الكعبة وهو واقف عليه، كلما فرغ من جدار نقله إلى الناحية التي تليها، وهكذا حتى تم بناء جدران الكعبة، وكانت آثار قدميه ظاهرة فيه ولم يزل هذا معروف تعرفه العرب في جاهليتها، ولهذا قال : أبو طالب في قصيدته المعروفة اللامية : وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة على قدميه حافيا غير ناعل .. أما الحفرتان الموجودتان فهما ناتجتان عن غوص قدما سيدنا إبراهيم في الحجر بعد أن لينه الله له.


في صحيح البخاري روى من حديث ابن عباس (رضي الله عنهما) في قصة إبراهيم (عليه السلام) وبنائه للبيت، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "فعند ذلك رفعا إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت؛ فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة، وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه، وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجر وهما يقولان: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، قال: فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت، وهما يقولان: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم"، ذكر هذا الحديث ابن كثير والطبرى فى تفسيريهما لهذه الآية وذكرا أيضا عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" إن الحجر والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما ولولا ذلك لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب "، وفى زمن عمر بن الخطاب لما دخل السيل الحرم المكى الشريف اقتلع المقام من مكانه، ولكن عمر رضى الله عنه بمشاورة أصحابه أعاده إلى مكانه.

وفى جلسة رابطة العالم الإسلامى المنعقدة بتاريخ (25 من ذي الحجة 1384هـ) صدر قرار من الرابطة بإزالة جميع الزوائد الموجـودة حول المقام، وإبقـاء المقام في مكانه على أن يُجعل عليه صندوق من البلور السميك القوي، وفى الثامن من شهر رجب سنة 1387هجرية وضع المقام داخل غطاء زجاجى مصنوع من البلور الفاخر على قاعدة رخامية، وأحيط هذا الغطاء بحاجز حديدي، وعملت له قاعدة من الرخام نصبت حول المقام لا تزيد مساحتها على 180 في 130 سنتيمترا بارتفاع 75 سنتيمترا، واتسعت رقعة المطاف وتسنى للطائفين أن يؤدوا مناسك الطواف في راحة ويسر، وخفت وطأة الزحام كثيرا.


نشرت يوم الإثنين 24 رمضان 1430 هـ / 14 -9-2009

مصر




أماكن فى القرآن

مصر
على جاد

مكان عرف قديما وحديثا، ومنذ آلاف السنين ويعد قلب العالم، تمتع بموقع جغرافي متميز، فكان ملتقي قارات العالم القديم أفريقيا وأسيا وأوروبا، مصر .. ذكرت فى القرآن الكريم أكثر من مرة كانت أشهرها فى قصة سيدنا يوسف وموسى عليهما السلام...

وكانت على الدوام ملتقى للتفاعل الحضاري بين الشرق والغرب، وبين الشمال والجنوب، وكانت البرزخ الذي مرت منه الديانات السماوية إلي العالم، فانعكس كل ذلك على تكوين الإنسان المصري، ليتمسك بقيم التسامح والاعتدال والتفاعل مع الآخر، وقد شهدت مصر خلال الحكم الإسلامي نهضة شاملة فى العمران والفنون تمثلت فى العمارة الإسلامية بإنشاء العديد من المساجد والقلاع والحصون والأسوار، كذلك الفنون الزخرفية التى تمثلت فى أول عاصمة إسلامية فى مصر، وهى مدينة الفسطاط، وبها جامع عمرو بن العاص ويعد مقياس النيل بجزيرة الروضة أقدم أثر مصرى إسلامى والذى أنشأه الخليفة العباسى المتوكل بالله عام 245هـ.

"فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين" سورة يوسف آية (99)

شهدت أرض مصر الكثير من الأحداث القرآنية لأنبياء فروا منها وأنبياء رحلوا إليها ليلتمسوا فيها الأمان، ففى قصة سيدنا يوسف ذكر ابن كثير فى تفسيره لهذه الآية أن الله تعالى يخبر عن ورود يعقوب ـ عليه السلام ـ على يوسف، وقدومه بلاد مصر لما كان يوسف قد تقدم لإخوته أن يأتوه بأهلهم أجمعين فتحملوا عن آخرهم، وترحلوا من بلاد كنعان قاصدين بلاد مصر....

فلما أخبر يوسف ـ عليه السلام ـ باقترابهم خرج لتلقيهم، وأمر الملك أمراءه وأكابر الناس بالخروج مع يوسف لتلقي نبي الله يعقوب ـ عليه السلام ـ ويقال إن الملك خرج أيضا لتلقيه، ثم لما وصلوا باب البلد قال :" ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين " اسكنوا مصر إن شاء الله آمنين، أي مما كنتم فيه من الجهد والقحط ؟ ويقال إن الله تعالى رفع عن أهل مصر بقية السنين المجدبة ببركة قدوم يعقوب عليهم، كما رفع بقية السنين التي دعا بها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أهل مكة حين قال(اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف) ثم لما تضرعوا إليه واستشفعوا لديه وأرسلوا أبا سفيان في ذلك فدعا لهم فرفع عنهم بقية ذلك ببركة دعائه ـ عليه السلام....

لقاء تملؤه اللهفة والشوق مدفوعا بحب أبوى ظل ملتاعا حيرانا قلقا على ابنه، لقاء بين نبيين على أرض مصر، ذكر الطبرى فى تفسيره لهذه الآية وصفا لهذا اللقاء، قال : لما ألقي القميص على وجهه ارتد بصيرا، وقال : ائتوني بأهلكم أجمعين ! فحمل يعقوب وإخوة يوسف، فلما دنا أخبر يوسف أنه قد دنا منه، فخرج يتلقاه قال : وركب معه أهل مصر؛ وكانوا يعظمونه، فلما دنا أحدهما من صاحبه، وكان يعقوب يمشي وهو يتوكأ أحد أبنائه يقال له يهوذا، قال : فنظر يعقوب إلى الخيل والناس، فقال : يا يهوذا هذا فرعون مصر ؟ قال : لا، هذا ابنك، قال : فلما دنا كل واحد منهما من صاحبه، فذهب يوسف يبدؤه بالسلام، فمنع من ذلك، وكان يعقوب أحق بذلك منه وأفضل، فقال : السلام عليك يا ذاهب الأحزان عني، هكذا قال : "يا ذاهب الأحزان عني".

فرعون مصر ونبى الله موسى قصة عرفها الناس، بل يسترجع التاريخ أحداثها كل يوم وتدور أحداثها مع اختلاف الأشخاص والأدوار وطرق الاختلاف والاتفاق، يقول المولى عز وجل : "وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين" سورة يونس الآية (87)، ذكر ابن كثير فى تفسيره لهذه الآية كيف بين سبحانه وتعالى سبب إنجائه بني إسرائيل من فرعون وقومه وكيفية خلاصهم منهم، وذلك أن الله تعالى أمر موسى وأخاه هارون ـ عليهما السلام ـ أن يتبوآ أي يتخذا لقومهما بمصر بيوتا..

واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى: " واجعلوا بيوتكم قبلة "، عن ابن عباس قال أمروا أن يتخذوها مساجد، وقد كانوا خائفين فأمروا أن يصلوا في بيوتهم، فلما اشتد بهم البلاء من قبل فرعون وقومه وضيقوا عليهم أمروا بكثرة الصلاة، عن ابن عباس في تفسير هذه الآية قال : قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام لا نستطيع أن نظهر صلاتنا مع الفراعنة، فأذن الله تعالى لهم أن يصلوا في بيوتهم وأمروا أن يجعلوا بيوتهم قبل القبلة خوفا من فرعون أن يقتلهم.

وعندما بحثت عن معنى اسم مصر وجدت فى كتاب "الروض الآنف" لابن هشام رأيا قال فيه: سميت مصر بمصر بن النبيط، ويقال ابن قبط بن النبيط من ولد كوش بن كنعان، وذكر ابن هشام أن بها قرية بالصعيد تسمى "حفن" هى قرية أم إبراهيم بن النبي - صلى الله عليه وسلم، وهي التي كلم الحسن بن علي - رضي الله عنهما - معاوية أن يضع الخراج عن أهلها، ففعل معاوية ذلك حفظا لوصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهم ورعاية لحرمة الصهر، وقد تزوج النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ من مارية بنت شمعون التي أهداها إليه المقوقس، وأهدى إليه أيضا قدحا من قوارير فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشرب فيه، ويقال أن هرقل عزل المقوقس لما رأى من ميله إلى الإسلام، كما ذكر أن أم إسماعيل "هاجر" من قرية تسمى "أم العرب" من مصر.

نشرت يوم الأحد 23 رمضان 1430 هـ / 13 - 9-2009

الاثنين، 14 سبتمبر 2009

الصفا والمروة




أماكن فى القرآن

الصفا والمروة


على جاد


اليوم نتحدث عن مكانين ارتبط كل منهم بالآخر للدلالة على مكان واحد مقدس أصبح من مناسك الحج .. فالصفا هو مكان مرتفع عن الأرض؛ عبارة عن قطعة من جبل يسمى "أبي قبيس" ويقع في الجهة الجنوبية من الحرم، أما المروة فهو مرتفع مثل الصفا ويقع في الجهة الشمالية الشرقية من الحرم، والمسعى هو تلك المسافة بين المرتفعين (الصفا والمروة) وطوله 405 أمتار تقريبا، وقديما كان الزحف على عرض المسعى بالبناء يتم دون وازع ديني ولا رقيب، حتى انتبه القائمون على رعاية مشاعر الحج لذلك، فقاموا بتوسعة تمت فيها إزالة البيوت التى كانت تعوق الحجاج فى مسعاهم، لما فيه خير وراحة المؤمنين في تأديتهم للسعي بين الصفا والمروة وتسهيل سيرهم وحركتهم في هذه المنطقة التى تشهد زحاما شديدا كل عام.

" إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما .." سورة البقرة آية (158)


الصفا مشتق من الصفو، وهو الخالص، وقيل :هو الحجر الذي لا يخالطه غيره من طين أو تراب يتصل به، والمروة : هي الحجارة الصغار التي فيها لين، وقيل : الصغار المرهفة الأطراف، هذا ملخص ما ذكره الأندلسى فى " التفسير الكبير"، وقال إن الصفا والمروة في الآية : علمان لجبلين معروفين، وقد نقلوا أن قوما قالوا : تم تذكير الصفا لأن آدم وقف عليه، وتأنيث المروة لأن حواء وقفت عليها، وقيل كان على الصفا صنم يدعى إسافا، وعلى المروة صنم يدعى نائلة، فاطرد ذلك في التذكير والتأنيث، وقدم المذكر .

وفى سبب نزول هذه الآية وتفسيرها ذكر القرطبي في تفسيره أن ابن عباس قال : كانت الشياطين تفرق بين الصفا والمروة الليل كله، وكانت بينهما آلهة فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الطواف بينهما فنزلت هذه الآية، وقال الشعبي : كان إساف على الصفا وكانت نائلة على المروة وكانوا يستلمونهما، فتحرجوا بعد الإسلام من الطواف بينهما فنزلت هذه الآية، وذكر محمد بن إسحاق في كتاب "السيرة" أن إسافا ونائلة كانا بشرين، زنيا داخل الكعبة فمسخا حجرين فنصبتهما قريش تجاه الكعبة ليعتبر بهما الناس، فلما طال عهدهما عبدا ثم حولا إلى الصفا والمروة فنصبا هنالك، فكان من طاف بالصفا والمروة يستلمهما، ولهذا يقول أبو طالب في قصيدته المشهورة : وحيث ينيخ الأشعرون ركابهم لمفضى السيول من إساف ونائل.

وفى إشارة لأهمية السعى بين الصفا والمروة ذكر الألبانى فى كتابه " مناسك الحج والعمرة " موقفا لعروة بن الزبير حين قال ذات يوم للسيدة عائشة : " ما أرى إلا أن الرجل إذا حج وما طاف ولا سعى بين الصفا والمروة إلا أن حجه صحيح، قالت : ولم ذلك ؟ فتلى ( فلا جناح عليه أن يطوف بهما ) فقالت له السيدة عائشة : لو كان الأمر كما تقول لكانت الآية : ( فلا جناح عليه ألا يطوف بهما )، يقول الألبانى إن السيدة عائشة ـ رضى الله ـ عنها قالت ما خلاصته أن هذه الآية نزلت بعد ما آمن الصحابة واسلموا وعرفوا الإسلام، فصاروا يبتعدون عن جاهليتهم السابقة، حيث كانوا قبل الإسلام إذا جاءوا عند الكعبة وطافوا بين الصفا والمروة، كانوا يهلون لطاغوت من طواغيتهم هناك، ولصنم من أصنامهم، فلما هداهم الله تبارك وتعالى بالتوحيد والإسلام ترفعوا أن يضلوا، وأن يلبوا بالتلبية عند الكعبة وبين الصفا والمروة، لأنهم كانوا يعبدون هناك ذلك الصنم، فوجدوا أن من المناسب لتوحيدهم وإيمانهم بالله ألا يعودوا فيطوفوا فى المكان الذى كانوا يهلون ويلبون فيه باسم الطاغوت سابقا، فكانوا يتخوفون، وكان المسلمون يقولون إن طوافنا بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية، وقال آخرون من الأنصار إنما أمرنا بالطواف بالبيت ولم نؤمر بالطواف بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى " إن الصفا والمروة .. "، لرفع الحرج الذى صار فى نفوسهم، فالطواف أمر من الله ولا حرج عليكم أن تطوفوا، ما دام أنكم كفرتم بهذا الصنم وآمنتم بالله وحده لا شريك له.

فقد بين الله تعالى أن الطواف بين الصفا والمروة من شعائر الله أي مما شرع الله تعالى لإبراهيم في مناسك الحج ـ كما وضح ذلك من كلام المفسرين ـ وأصل ذلك مأخوذ من طواف هاجر وتردادها بين الصفا والمروة في طلب الماء لولدها لما نفد ماؤهما وزادهما، حين تركهما إبراهيم عليه السلام هنالك وليس عندهما أحد من الناس، فلما خافت على ولدها الضيعة هنالك ونفد ما عندهما قامت تطلب الغوث من الله عز وجل، فلم تزل تتردد في هذه البقعة المشرفة بين الصفا والمروة متذللة خائفة وجلة مضطرة فقيرة إلى الله عز وجل حتى كشف الله كربتها وآنس غربتها وفرج شدتها وأنبع لها زمزم التي ماؤها " طعام طعم وشفاء سقم "، فالساعي بينهما ينبغي له أن يستحضر فقره وذله وحاجته إلى الله في هداية قلبه وصلاح حاله وغفران ذنبه، وأن يلتجئ إلى الله عز وجل لتفريج ما به من النقائص والعيوب، وأن يهديه إلى الصراط المستقيم وأن يثبته عليه إلى مماته، وأن يحوله من حاله الذي هو عليه من الذنوب والمعاصي إلى حال الكمال والغفران والسداد والاستقامة كما فعل بهاجر عليها السلام .

نشرت يوم السبت 22 رمضان 1430 هـ / 12-9-2009

مكة



أماكن فى القرآن


مكـة
على جاد

مكان حرم الله فيه أعمالا كثيرة، وجعل له وضعا خاصا دون سائر البلاد، فحرم فيه القتل والصيد وكل أنواع الجرائم التى يرتكبها الإنسان فى غيره، مكة المكرمة وتقع على سفوح جبال"السروات"، وتمثل نقطة التقاء تهامة بالجبال التي تحيط بمكة من جميع الجهات، فمكة المكرمة مجموعة من الأودية المتخللة هذه الجبال وهي أيضا منافذها، خاصة كلما اتجهنا إلى الساحل من الناحية الغربية، وترتفع عن سطح البحر بـ279مترا تقريبا، وجوها حار جاف صيفا بارد ممطر شتاء، وبيوتها كائنة على امتداد الوادي، ويسميه المكيون وادي "إلراهيم"، ولموقع مكة المكرمة أهمية كبرى إذ تمثل منتصف خط القوافل التجارية القديمة التي كانت تزاول نشاطها بين اليمن وبلاد الشام جنوبا وشمالا.

"وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم .." سورة الفتح آية (24)

ذكرت لمكة أسماء كثيرة منها : مكة وبكة والبيت العتيق والبيت الحرام والبلد الأمين والمأمون وأم رحم وأم القرى والعرش، وسميت بكة لأنها تبك أعناق الظلمة والجبابرة، بمعنى أنهم يذلون بها ويخضعون عندها، وقيل : لأن الناس يتباكون فيها أي يزدحمون، هذا ملخص ما جاء فى كتاب "السيرة النبوية" لابن هشام.

 ومكة المكرمة  هى بلدة قديمة العهد عرفت قبل مجىء إبراهيم عليه السلام إليها ليرفع قواعد البيت العتيق ـ كما ذكر ابن هشام ـ وعندما وصلها كانت قرية صغيرة تقع في واد غير ذي زرع تحيط بها الجبال من كل جانب، وتتفق جميع الروايات على أن جرهم كانت بمكة في عهد إسماعيل عليه السلام وأنه تزوج من بنات هذه القبيلة، وفي أواخر القرن الثالث الميلادي استولى على مكة جماعة من سكان جنوب الجزيرة العربية وطردوا جرهم منها، لكن جو مكة لم يلائم هؤلاء فغادرت غالبيتهم مكة وبقى فيها قسم منهم، وهم الذين باسم خزاعة، وفي منتصف القرن الخامس الميلادي انتقلت الزعامة لقصي بن كلاب أحد أحفاد إسماعيل بن عدنان وقصي هو الجد الرابع للنبي محمد ـ عليه الصلاة والسلام.

وتعد مكة بأكملها وقفا لا يجوز بيع أرضها أو بيوتها، يقول ابن هشام فى كتابه" زاد المعاد " الجزء الثالث، إن مكة ليست كسائر البلاد، فإن فيها شيئا آخر يمنع من قسمتها ولو وجبت قسمة ما عداها من القرى، وهي أنها لا تملك فإنها دار النسك ومتعبد الخلق وحرم الرب تعالى الذي جعله للناس سواء العاكف فيه والباد، فهي وقف من الله على العالمين وهم فيها سواء، ولهذا ذهب جمهور الأئمة من السلف والخلف إلى أنه لا يجوز بيع أراضي مكة، ولا إجارة بيوتها، هذا مذهب مجاهد وعطاء، ومالك، وأبي حنيفة، وسفيان الثوري، والإمام أحمد بن حنبل.

وروى الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ عن علقمة بن نضلة قال:" كانت رباع مكة تدعى السوائب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، من احتاج سكن، ومن استغنى أسكن"، وروي أيضا عن عبد الله بن عمر : " من أكل أجور بيوت مكة، فإنما يأكل في بطنه نار جهنم "، كما يحرم سفك الدم بها، وهو الذي يباح في غيرها، ويحرم فيها لكونها حرما، كما أن تحريم عضد الشجر بها، واختلاء خلائها، والتقاط لقطتها، هو أمر مختص بها، وهو مباح في غيرها، إذ الجميع في كلام واحد ونظام واحد وإلا بطلت فائدة التخصيص.
وذكر عن عبد الله بن عمر أنه قال: " لو لقيت فيه قاتل عمر ما ندهته "، وعن ابن عباس، أنه قال: " لو لقيت قاتل أبي في الحرم ما هجته حتى يخرج منه "، وهذا قول جمهور التابعين ومن بعدهم، ولم يذكر أن اختلف صحابي أو تابعي على ذلك، وإليه ذهب أبو حنيفة ومن وافقه، والإمام أحمد.

وفى حماية الله عز وجل لمكة وبيتها ذكر ابن هشام فى الجزء الأول من كتابه " السيرة النبوية " أن أبرهة لما
تهيأ لدخول مكة، وهيأ فيله وجهز جيشه لهدم البيت، لم يحدث ما أراد، فلما وجهوا الفيل إلى مكة برك، فضربوا الفيل ليقوم فأبى، فضربوا في رأسه بالطبرزين ليقوم فأبى، فأدخلوا محاجن لهم في مراقه فبزغوه بها ليقوم فأبى، فوجهوه راجعا إلى اليمن فقام يهرول، ووجهوه إلى الشام فهرول، ووجهوه إلى المشرق فهرول، ووجهوه إلى مكة فبرك، فأرسل الله تعالى عليهم طيرا من البحر أمثال الخطاطيف مع كل طائر منها ثلاثة أحجار: حجر في منقاره وحجران في رجليه أمثال الحمص والعدس لا تصيب منهم أحدا إلا هلك.

أما سبب نزول هذه الآية فكان لموقف حدث بين المسلمين وقريش، ذكره ابن كثير والطبرى فى تفسيريهما لهذه الآية، فرويا عن عكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنه أن قريشا بعثوا أربعين رجلا منهم ـ وقيل خمسين ـ وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول ـ الله صلى الله عليه وسلم ـ ليصيبوا من أصحابه أحدا فأخذوا أخذا، فأتي بهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فعفا عنهم وخلى سبيلهم، وقد كانوا رموا المسلمين بالحجارة والنبل.

قال ابن إسحاق وفي ذلك أنزل الله تعالى هذه الآية، وقال قتادة: ذكر لنا أن رجلا يقال له ابن زنيم اطلع على الثنية من الحديبية فرماه المشركون بسهم فقتلوه، فبعث ـ رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ خيلا فأتوه باثني عشر من الكفار فقال لهم: " هل لكم علي عهد ؟ هل لكم علي ذمة ؟ "، قالوا : لا، فأرسلهم وأنزل الله تعالى في ذلك :" وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ".

نشرت يوم الجمعة 21 رمضان 1430 هـ /11 -9-2009

الأحد، 13 سبتمبر 2009

المشعر الحرام


أماكـن في القرآن


المشعـر الحـرام


علي جاد

من الأماكن المقدسة التى يذهب إليها الحجاج ضمن مناسك الحج، وهو منطقة تقع بالقرب من مكة جنوب شرق "منى"، وبين "منى" وجبل عرفة وهو جبل فى آخر المزدلفة، ويعد المشعر الحرام، كما سماه الله عز وجل فى القرآن من الأماكن المقدسة التى ذكرها القرآن، بل جعله سبحانه وتعالى من مناسك فريضة الحج.

قيل هو جبل فى آخر المزدلفة يقال له "قزح" يذكر الحجاج ربهم عنده بعد المبيت بمزدلفة، والمزدلفة عبارة عن واد يمتد من "محسر" غربا إلى "المأزمين" شرقا، طوله نحو أربعة آلاف متر، وسمي بذلك لأن الناس يأتون إليه في زلف، ويقوم الحجاج بجمع الحصيات لرمى الجمار بـ"منى" خلال الأيام التالية، ويمكث بها الحجاج حتى صباح اليوم التالى يوم عيد الأضحى، وتعد المنطقة بأكملها موقفا عدا وادى محسر.

".. فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين .." سورة البقرة آية (198)

معنى المشاعر أى المعالم، من قول القائل : "شعرت بهذا الأمر" أي علمت، فـ "المشعر" هو المعلم وسمي بذلك؛ لأن الصلاة عنده والمقام والمبيت والدعاء، من معالم الحج وفروضه التي أمر الله بها عباده، ورد عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه صلى الفجر بالمزدلفة وركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام فدعا وكبر وهلل ولم يزل واقفا حتى أسفر، قال القرطبى وابن كثير فى تفسيريهما لهذه الآية إن المشعر هو مزدلفة كلها الجبل وما حوله، وقد أمر الله تعالى المسلمين إذا أفاضوا من عرفة أن يذكروه سبحانه وتعالى فيها بصلاتى المغرب والعشاء جمع تأخير، وقوله عند المشعر الحرام معناه: مما يلي المشعر الحرام قريبا به، وذلك للفضل، كالقرب من جبل الرحمة، وإلا فالمزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر، وجعلت أعقاب المزدلفة لكونها في حكم المشعر ومتصلة به عند المشعر، وسميت المزدلفة وجمعا؛ لأن آدم اجتمع فيها مع حواء وازدلف منها، أي دنا منها، وقال قتادة: لأنه يجمع فيها بين الصلاتين، ويجوز أن يكون وصفت بفعل أهلها لأنهم يزدلفون إلى الله تعالى، أي يتقربون بالوقوف فيها.

والوقوف بمزدلفة يستحب فيه الإكثار من الدعاء والتلبية وذكر الله سبحانه وتعالى، وذكر ابن كثير فى تفسيره للآية الكريمة أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ظل واقفا بعرفة حتى غربت الشمس وبدت الصفرة قليلا حتى غاب القرص وأردف أسامة خلفه ودفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد شد زمام القصواء حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله، ويقول بيده اليمنى " أيها الناس : السكينة السكينة " وكلما أتى جبلا من الجبال أرخى لها قليلا حتى تصعد، حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئا ثم اضطجع حتى طلع الفجر فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعا الله وكبر وهلل ووحد، فلم يزل واقفا حتى أسفر ـ في صحيح مسلم.

وكان صلى الله عليه وسلم في المناسك والأعياد يذهب من طريق ويرجع من أخرى فدخل من الثنية العليا وخرج من الثنية السفلى، ودخل المسجد من باب بني شيبة وخرج بعد الوداع من باب حزورة اليوم، ودخل إلى عرفات من طريق ضب وخرج من طريق "المأزمين"، وأتى إلى جمرة العقبة - يوم العيد - من الطريق الوسطى التي يخرج منها إلى خارج منى ثم يعطف على يساره إلى الجمرة ثم لما رجع إلى موضعه بمنى الذي نحر فيه هديه وحلق رأسه رجع من الطريق المتقدمة التي يسير منها الناس اليوم، فيؤخر المغرب إلى أن يصليها مع العشاء بمزدلفة ولا يزاحم الناس، بل إن وجد خلوة أسرع فإذا وصل إلى المزدلفة صلى المغرب قبل تبريك الجمال إن أمكن ثم إذا بركوها صلوا العشاء، وإن أخر العشاء لم يضر ذلك ويبيت بمزدلفة، ومزدلفة كلها يقال لها المشعر الحرام وهي ما بين مأزمي عرفة إلى بطن محسر، كما أوضح ابن تيمية فى كتابه " فتاوى ابن تيمية"، وقال من السنة المبيت بمزدلفة إلى أن يطلع الفجر فيصلى بها الفجر في أول الوقت ثم يقف بالمشعر الحرام إلى أن يسفر قبل طلوع الشمس، فإن كان من الضعفة كالنساء والصبيان ونحوهم فإنه يتعجل من مزدلفة إلى منى إذا غاب القمر، وينبغي لأهل القوة ألا يخرجوا من مزدلفة حتى يطلع الفجر فيصلوا بها الفجر ويقفوا بها، ومزدلفة كلها موقف لكن الوقوف عند قزح أفضل وهو جبل" الميقدة"، وهو المكان الذي يقف فيه الناس اليوم، وقد بني عليه بناء وهو المكان الذي يخصه كثير من الفقهاء باسم المشعر الحرام.

عن عائشةـ رضى الله ـ عنها قالت : " كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يسمون الحمس، وكان سائر العرب يقفون بعرفات، فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يأتى عرفات، ثم يقف بها ثم يفيض، فذلك قوله من حيث أفاض الناس" فى البخارى وشرح النووى، قال القرطبى :‏ ‏أي اذكروه بالدعاء والتلبية، ويسمى "جمعا" لأنه يجمع فيه المغرب والعشاء، وسمي مشعرا من الشعار وهو العلامة، لأنه معلم للحج والصلاة والمبيت به، والدعاء عنده من شعائر الحج، ووصف بالحرام لحرمته.

نشرت يوم الخميس 20 رمضان 1430 هـ / 10 - 9 - 2009

قائمة المدونات الإلكترونية